تونس و حالات شتّى من البؤس …

لمّا كتب الباحث والسوسيولوجي التونسي الطاهر أمين ثلاثيته الشهيرة : بؤس الثقافة ..بؤس الهوية..بؤس الثورة ..هوجم ممن توهّم أو هكذا بدى له ان ما حدث هو فعلا ثورة  ..

اليوم والآن نقف عند وجاهة ما تفطن له الطاهر امين مبكرا بان الثورة لا بد وأن يسبقها حراك ثقافي شامل يبلغ فيه الوعي المجتمعي ذروته فيتحول الى ثورة شاملة قادرة على القطع مع الماضي وتملك ادوات التأسيس للمستقبل ..

ما حدث في تونس لم يكون مسبوقا ولا مشفوعا بحركة ثقافية شاملة قادرة على التحول بالوعي المجتمعي من وعي قطيعي بالنظر الى نمطية ممنهجة توخّتها الدولة والحزب في تسطيح الوعي وهدم الفكر والثقافة وتدمير ممنهج للمناهج التربوية الى وعي كامل مسؤول فأصبحنا أمام حالات شتى من البؤس ..وصدق الطاهر امين في توصيف الحالة بشكل استباقي …حالة البؤس اللاّ مسبوق تنتشر بكل ثقلها في أرجاء الوطن ..

بؤس مركّب فيه ما هو فكري معرفي ثقافي مواطني وفيه ما هو مادي محسوس مرتبط بجيوب خاوية مهترئة ونظام اقتصادي واجتماعي مهتز مرتهن الى الآخر في كل جزئياته ..في خضم هذه الحالة من البؤس لن ينبت يقين في صفاء الرؤية أو قناعة بمستقبل آمن ..

أتحدّث هنا عن وطن عكّر صفو ربيعه سوء التدبير وقلّة التقدير..إنكفأت الإرادة على ذاتها ..وانفجرت عبوات النوازع الذاتية الضيقة في وجه الوطن الهزيل ..تعالت اصوات جائعة للشغل ..و للمال للضروريات حينا و للكماليات أحيانا ..إهتزّت الفرائص ..تشوّشت الرّؤى .. وارتبكت الدولة بأنظمتها المتلاحقة بعد الثورة ..

فشل الكلّ امام آلة معقدة محكمة من النوازع الضيقة التي لا تخاف الله لا في نفسها ولا في الوطن .. لم تصُغ الدولة حلولا جذرية لواقع الحال الذي استفحل فيه داء الكسل وغابت فيه قيمة الفعل والعمل.. ولمّا يتزاوج الطّمع و الابتزاز فما يولّد غير الضعف والهوان ..انتفخت بطون الحيتان الجديدة الآتية للتو من خارج الحدود وأخرى حربائية تلوّنت واصطبغت بلون الربيع المزهر في البلد منذ سنوات قليلة.

في بيئة كهذه يتقلّص فيها هامش الأمل في الخلاص من ديكتاتورية ناشئة متوحشة احكمت قبضتها على الجميع وهي نتاج لخليط الكسل والابتزاز و الانتهازية و الغنيمة .. في ظل هذا البؤس برزت آفات عديدة منها ما هو منتظر ومنها ما أطلّ برأسه مستغلا فراغات شاسعة تركتها مؤسسات الدولة الرسمية أو انشطار سقف المجتمع القيمي والأخلاقي ..فتعرّى الجميع ـ إلا من رَحِم ربّي ـ وأصبحنا في العراء في صحراء قفر أمام وابل القصف الهائل من غارات الفكر التكفيري الموغِل في التشدد او ذاك المنفلت من عقال كل الضوابط المغالي في الانفتاح .. انكفأت المؤسسات القيمية ذات المرجعية الوازنة والضابطة للمجتمع كالمدرسة التي يُستباح فيها أحيانا عِرض المعلّم ويُرجم فيها حينا الاستاذ بالحجارة ويتعرض لأبشع اشكال التنكيل والإهانة.

تشظّت العائلة كمكوّن أساسي في تماسك المجتمعات بانشغال الاب والأم بمتطلبات الحياة واللّهاث وراء توفير ما يلزم على حساب لحظة صدق و عطف مع الآباء والأبناء .. و اصبحنا بسلوكنا هذا الذي فرضه علينا نمط اقتصادي متوحش نصنع من أبنائنا أحيانا وحوشا منزوعي الشفقة والرحمة أو عُياقا ـ لا قدر الله ـ..فالكل يقاس بالمليم حتى رقعة الحب تغيرت وحدة قيسها إلى ملاليم مربّعة .. في وضع كهذا لا غرابة ان تنتشر الجريمة ويعشّش الفكر التكفيري ..ويلعن الواحد منا زمانا ليس بزمانه..

أفتستغربون ان يجد بعض المراهقين والمراهقات ضالتهم في الانتحار ؟؟!! نسجّل في وطننا تناميا غريبا لظاهرة انتحار المراهقين والمراهقات آخرها محاولة خمس فتيات لا يتجاوز اعمارهن الاثنتي عشرة سنة على محاولة انتحار جماعي بشرب دواء مخصص للقضاء على الفئران في احدى المعاهد شمال العاصمة.

وسبق ان انتحرت بنت العشر سنوات في وسط العاصمة والحالات عديدة .. هذا نتاج البؤس بمختلف اشكاله وتمظهراته .. الفقر يذبح الناس جميعا ..و ضغط اللحظة لا يُحتمل والكل يلهث لتوفير ما يلزم دون ان يوفر شيئا .. نمط من التوحش والغربة الذاتية والفراغ المدوي يكتنف المكان والزمان ..ونحن لم نستوعب بعد ما الذي يتربّص بنا ..بطالة متفشية كالوباء لا نتحكّم فيها وأخرى ساكنة فينا مسيطرة علينا فلا نقدر على الخلاص منها .. فالموظف التونسي اليوم في آخر دراسة اجرتها الجمعية التونسية لمكافحة الفساد لا يعمل إلا بمعدل ثماني دقائق في اليوم .. فهل أكثر من هذا عَطالة !!؟؟

شعب لا يأكل من عرقه لن يعمّر طويلا ..ودولة لا تصنع خبزها من حقولها سيأكلها الدود ..دولة لم تترك نافذة للتداين الا و مدّت عنقها منه طلبا للمال …وصرفت النظر عن أدوات فعالة للتحفيز على العمل ومكافأة المجتهد ومعاقبة المقصِّر .. دولة غضّت الطرف عن حيتان أستكرشت وتمعّشت وأستثمرت في ضعف الدولة لتكبر اليوم وتبتلع الجميع .. وأصبحت حيتان الاقتصاد ولوبيات المال والإعلام والسياسة تتحكّم في كل شيء …و لم يبق لنا غير الكلمة التي أُحيطت هي ايضا بمحاذير جمة ..فهؤلاء لا يتحمّلون صدق الكلمة ..ولا يباركون نفَسَ الحرية في إعلام مواطِني ..هم يرغبون في اليوم والغد في آن واحد .. أمام حالة البؤس و قلّة التدبير وقِصَر النظر و انتشار منطق الغنيمة و انحسار الوعي الوطني في الذاتي الضيق ..سنغرق جميعا في أتون اللّاعودة ..خندق بل مستنقع سيبتلعنا جميعا ….خلاصنا أولا لا بد أن يكون من ذواتنا ..لا بد من درء شبهة الذاتية والمصلحية الضيقة عبر تعميق الوعي وتعميمه بأهمية المصلحة الوطنية العليا ..ثم بالإقبال على الانتاج والعمل ..فالدستور الذي ضمِن حق الاضراب فرض أيضا ضمنيا واجب العمل .. والدولة التي تعجز عن اعداد رغيف اليوم و تامين قمح الغد عليها ان تراجع دواليبها ..نحن فقط من سنُسأل يوما ما عنا اقترفته يدانا ..ولا أحد سوانا ….

آخر الأخبار

الأكثر قراءة

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.