بقلم محمد علي الصغيّر-
تتواصل أعمال التخريب والنهب والسلب في كافة أنحاء الوطن تقريبا في غياب واضح وفاضح لأي ردة فعل رسمي لما يحدث.
ليل تونس أصبح شبيها بليالي بعض المدن في العالم كتشيهاواهوا في المكسيك أو بوغوتا الكولمبية او كاب تاون في جنوب افريقيا او حتى العاصمة الصومالية موقاديشيو.
في الأثناء، يتواصل التطاحن والتلاسن وصراع الديكة بين السياسيين حول المنابر الإعلامية وأمام عدسات الكامرا وتحت قبة مجلس نواب الشعب حيث يتفنن بعض سياسيي هذا الزمن الرديئ في انتقاء أقذع العبارات وأبشع النعوت لشيطنة بعضهم البعض والتراشق بالتهم والتخوين العلني في غياب أي رادع أخلاقي وهو ما يعكس المستوى الحقيقي لجزء من طبقتنا السياسية.
وأمام هذا الوضع المزري والحالة المفزعة التي يترجمها الانفلات الأمني الممنهج والحالة الاقتصادية المحبطة للعزائم والارتفاع الجنوني للأسعار والانهيار المدوّي للقدرة الشرائية للمواطن والانقراض التدريجي لما اصطلح على تسميته بـ «الطبقة الوسطى»، لا أمل يلوح أمام التونسيين للخروج من عنق الزجاجة. وحتى نبوءة رئيس الحكومة الذي توسم فيه التونسيون خيرا ولقبوه بـ”يوزرسيف” تَيَمُّنا بالنبيّ الصالح يوسف عليه السلام، بقرب انتهاء السبع سنوات العجاف التي مرت علينا مع نهاية العام الحالي تبدو من قبيل أضغاث الأحلام.
لن نذيع سرا إن وصفنا ما يحدث اليوم في تونس بالأمر الخطير. ما نعيشه في هذه الأيام من انفلات في كل المستويات هو من قبيل الشيئ المعتاد. الأنكى أن أننا بتنا لا نجد للاستقرار عنوانا في وجود كل هذه المتناقضات التي اجتمعت لتخلق لنا مناخات سياسية واجتماعية واقتصادية متعفنة ومهترئة وهشة.
أولا: زواج ضد قانون الطبيعة بين حركتين سياسيتين متنافرتين متعاديتين في السرّ ومتلاحمتين ومتضامنتين في العلن عكس ارادة قواعدهما ورغم غياب أي مشترك بينهما سوى الطمع في الحكم والعشق الأعمى السلطة… ولأنه لا مصالح دائمة ولا عداء متواصل في السياسة، ها أن حركة نداء تونس تعلن عن “طلاقها للضرر” من حركة النهضة على خلفية الهزيمة النكراء التي مُني بها نداء تونس في الانتخابات التشريعية الجزئية في ألمانيا والتي يتهم فيها حليفه بخذلانه والتخلّي عنه… في انتظار إكمال فترة “العدّة” التي تقتضي تواصل هذا التحالف المزيّف حتى بلوغ الاستحقاقات الانتخابية القادمة…
ثانيا: مناخ سياسي متعفّن تمارس فيه بعض الأحزاب «البلطجة» وتجيّش فيه بعض الشباب العاطل واليائس الى النزول الى شوارع ليلا متسترين بالظلام للتخريب والحرق والاعتداء على الأملاك العامة والخاصة وشن حرب شوارع ليلية ضد قوات الأمن بتعلّة حق التونسي بالتظاهر متى شاء وهذا ما تقتضيه الديمقراطية على حد زعمهم… والحال أن ما يأتيه هؤلاء الخفافيش أبعد ما يكون عن التحضّر والتمدّن بل يدخل في خانة الإجرام والترهيب… وفي المقابل نجد أطرافا أخرى تهدد وتتوعّد على غرار ما أتاه القيادي بحركة النهضة حسين الجزيري أمام نواب المعارضة من تصريحات من قبيل:« لن نرضى بالمزايدات وقد صبرنا عليكم كثيرا… والنهضة أقوى وأكثر عددا ان خيرت النزول الى الشارع»!!!! وهو ما يدخل في خانة التجييش والتحريض على العنف رغم أنه تم تغليفه بغطاء سياسي بحت. وفي الأثناء يعلن حزب نداء تونس، وفي خضم هذا التوتر والاحتقان الاجتماعي عن تفويض 10 وزراء و5 كتاب دولة و4 مستشارين وتجنيدهم للإشراف عن إعداد قائمات انتخابية في مختلف الجهات استعدادا لانتخابات بلدية مازال إجراؤها محلّ شكّ ومزايدات رغم تحديد موعد لها. وهو ما يعتبر تعدٍّ صارخٍ لكل القيم ومقومات الانتقال الديمقراطي التي تقتضي فصل الحزب عن السلطة… وفي خطوة كفيلة بأن تعيدنا الى مربّع «حزب الدولة» أو حزب التجمّع الدستوري الديمقراطي سابقا وإلى الممارسات البالية التي كان يأتيها نظام الرئيس بن علي… كما أن جزءا كبيرا من المعارضة لا تتوان عن ممارسة الفعل السياسي من باب الهواية ولا تحترف سوى تبني العنتريات الزائفة والصراخ داخل قبة البرلمان ولعب دور الضحية أمام وسائل الإعلام شعارها الوحيد شيطنة كلّ من في الحكم دون تقديم بدائل ومقاربات حقيقية تجعل منها معارضة بناءة وحقيقية وفي مستوى الحدث.
ثالثا: فساد مستشر ومستعر يكاد ينخر كل مفاصل الدولة ولا يكاد يستثني جهازا واحدا تترجمه وجود آلاف قضايا حول شبهات فساد تطال مسؤولين حكوميين تقدمت بها الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد… انتشار غير مسبوق للرشوة والمحسوبية والزبونية في أغلب المجالات تقريبا… تهرب ضريبي وتبييض للأموال يُتوَّجُ بإدراج تونس ضمن قائمة سوداء تضم 17 ملاذا ضريبيا خارج الاتحاد الأوروبي.. وهو ما زاد في تحطيم صورتنا على المستوى الدولي.. عجز الدولة أو تغاضيها عن استرجاع آلاف المليارات من الدينارات بعنوا ن ضرائب وديون جبائية متخلدة بذمة رجال الأعمال والشركات والحال لا ترى ضيرا في اثقال كاهل المواطن البسيط والمُفَقَّرِ بالإجراءات الجبائية المهينة. ولعلّ قانون المالية الأخير الذي جاء الاحتجاج عليه من قبل فئات واسعة من الشعب التونسي هو العنوان الأبرز لهذا التسلّط و «القمع الجبائي» المسلّط على المواطن والذي بدأت بشائره تلوح مع بداية هذا العام الجديد. كل هذا جعل من الحكومة تعمل كسابقاتها على اتباع الحلول السهلة ونظرية المجهود الأدنى من خلال تسليط سيف الأداءات والترفيع في الأسعار على رقاب المواطن البسيط في حين أنها تدرك جيدا من أين يمكنها توفير الموارد الحقيقية القادرة على انقاذ البلد.
رابعا: حرب تكاد تكون وهمية على الفاسدين والمهرّبين في ظل تواتر اتهامات خطيرة بوجود بارونات تهريب متربّعة على كَراسٍ وثيرة في مجلس نواب الشعب تُشرِّعُ لأنفسها ما طاب لها من القوانين التي تحميها وتبيّض أنشطتها اللامشروعة وهذا بشهادة البعض من أهل مجلسنا الموقر علنا وفي وضح النهار!!!! ويبدو أن حملة الايقافات التي شملت رجال أعمال ومهربين، رغم ما شابها من هالة اعلامية وتسويق سياسي أدخلت الطمأنينة نسبيا في نفوس المواطنين، يبدو أنه تم وقفها الى حين حتى لا نقول إنه تم إجهاضها تماما لغاية في نفس يعقوب استسلم لها يوسف الشاهد ورضخ واستسلم لها طائعا.
خامسا: وضع أمني مضطرب ومهزوز رغم كل النجاحات التي حققتها الأجهزة الأمنية والعسكرية على الإرهاب. فما يحدث اليوم من عمليات مواجهة مباشرة بين قوات الأمن واللصوص وعصابات النشل الذين يستعينون بالظلام لاستهداف المقرات الأمنية ونهب المواطنين لا يدخل في خانة استنزاف المجهود والقوى فحسب بل هو نوع من أنواع استدراج المؤسسة الأمنية الى مربع العنف وتشويه صورتها من جديد لدى الرأي العام وفتح الابواب على مصراعيها لعودة شبح والارهاب ليخيم من جديد على بلادنا.
أخيرا: وضع اقتصادي صعب ومهترئ. فمع نسبة نمو لا تتعد 2.2٪ وهي نسبة أقل من المعدلات العالمية وفي ظل غياب أي تتطور لنسق الانتاج في السنة المنقضية وفي ظل وجود نسبة تضخم تفوق 6.4٪ ومع اهتراء غير مسبوق للمالية العمومية فان كل هذه المؤشرات ساهمت بصفة مباشرة أو غير مباشرة في خلق نوع من لتململ لدى الرأي العام الشعبي في ظل امتداد هذه الوضعية و تواصلها رغم بوادر تتحدث عن بشائر تعاف مرتقب للاقتصاد التونسي خصوصا مع نمو قطاعات حيوية كالقطاع السياحي.
ومع ارتفاع نسب البطالة وغياب فرص حقيقية للتشغيل خصوصا بعد اعتزام الحكومة غلق باب الانتدابات في سنة 2018 بسبب تفاقم الصعوبات أمامها لخلاص أجور الموظفين الذين تعج بهم الإدارات العمومية، زاد التوتر لدى فئات هامة من الشعب خصوصا خريجي الجامعات المحالين آليا علي البطالة الإجبارية.
ولعل ما أتينا على ذكره بطريقة مقتضبة نسبيا بالنظر الى تشعّب كل هذه المسائل وتعقّدها، يعد جزءا غير يسير من الأسباب التي جعلت من بلادنا اليوم بؤرة للتوتر والاضطراب على جميع الأصعدة…
ولئن تلوح بوادر الأمل بعيدة نسبيا وهو ما يؤكده خبراء الاقتصاد، عكس ما يسوّق له السياسيون، فإن الإقرار بحتمية الخروج من هذا النفق أمر لا مناص منه وهو قدر كل الشعوب التي ارتضت لنفسها أن تسلك أصعب السبل رغم تواصل السنوات العجاف…