77
بقلم: رشيد الكرّاي
كنت أسمع من قبل عن ذلك المثل الفرنسي القائل "يكذب كما يتنفّس" وكنت دائما أعتقد أنّ فيه الكثير من الشطط والمبالغة، وأنّ تنسيب مظاهر السلوك الإنساني هو السبيل الأقوم لفهم وتحليل مختلف الأفعال والأقوال التي يأتيها إنسان ما، فلا وجود على سبيل المثال لإنسان صادق أو كاذب في مطلق الأحوال والظروف، على اعتبار أن الحقيقة نفسها، تعتبر نسبيّة بالنظر لمحيطها والفاعلين فيها.
ولكنّي أعترف اليوم بأنّني كنت مُخطئا وأنّ هناك فعلا رهوطا بشرية تكذب فعلا كما تتنفّس، بل إنها حين تصدق فهي في الواقع تكذب ، لأنه لا أحد يمكنه تصديقها وقد تعوّد منها سوى الكذب والتضليل وقلب الحقائق . وهل ثمّة مجال يختزل الصدق في الكذب كما يتنفّس الإنسان غير السياسة والسياسيين ؟ وهل ثمّة من بين هؤلاء من برع في هذه الحرفة وله فيها صولات وجولات وأنصار ومريدون غير الإخوان ؟ وهل ثمّة غيرهم يعتبرون قتل الأبرياء حلالا والسطو على ممتلكات الناس غنيمة ، ثمّ يسوّقون ذلك نضالا سلميّا شريفا يستحقون عليه التكريم والتبجيل والتعويض ؟ وهل ثمّة غيرهم في تونس من أطبق على أنفاس الدولة والشعب طيلة عشر سنوات ، فوعدوا وأخلفوا ، ودمّروا ولم يبنوا ، وأفسدوا ولم يصلحوا ، ونطقوا ولم يكذبوا ؟ هل سمعتم ما قاله كبيرهم الغنوشي حول أحد أنصارهم الذي حرق واحترق في مقرّهم فغدا جثّة متفحّمة ؟
لا أريد أن أعيد كلامه فقد سمعه الجميع ، وهو يصيبني بالغثيان فعلا ، فقط أقول أصبحنا اليوم نعيش في زمن التفاهة ، حيث أصبحت الخرافة منهجا ، وغدا التّجهيل فنّا يتسابق إليه الجُهّال للفوز بكرسي السياسة ، فخرجوا إلينا بعلوم وفنون وأفكار وممارسات خالية من القيم والأخلاق ، بعيدة عن ثوابت السياسة بل وعن ثوابت الدين الذي يتبجّحون بالكلام باسمه واحتكاره في فكرهم المريض.
نعم ، أصبحت السياسة اليوم لديهم فنّ الممكن ، فلا مكان للأخلاق فيها كما كان يقول ميكافيللي ، بل إنّ العكس بات هو الصحيح، فالسلطة والحكم ترفع شعار الصدق في العلن ، لكنّها تنتهج الكذب والغشّ والخداع وسيلة ، فلا مكان للحقيقة في عالم السياسة عندهم.
لقد أصبح الإخوان وغيرهم كثيرون أيضا اليوم يسكنون في قصور الغشّ والخداع، ويسبحون في بحر الكذب والتزييف، ويتنفّسون هواء الأطماع والشهوات ، ظنّا منهم أنّهم حمّالو فلسفة وصنّاع دولة، وقد تناسوا – يا لجهلهم- أنّ أهل الفكر يعملون انطلاقا من منظور نقديّ بحت ، وأنّهم بذلك يسعون لتثبيت صرح الحقيقة. أمّا تجّار السياسة من أمثالهم، فإن منهم منْ يسرح بالفكر والفلسفة خدمة لقتل الحقيقة، وشتّان ما بين هذا وذاك!
كيف يمكن لسياسة الكذب أن تنتج المثُل حين تكون المعرفة مشوّهة ، ونحن نعلم أنه حين تكون السياسة مبنيّة على أساس المثل والقيم ، فإنّها تكون قد تسلّحت بالمعرفة أمام كلّ ما يهدّد الحياة ، ويسحق العقل ، ويؤدلج ضمائر الناس ، ويحوّلهم إلى قطيع من الأغنام ، فتكون الدولة والنظام أشبه بالغابة ، حيث الوحوش الكاسرة ، والقويّ فيها لا يبقي على الضّعيف.
إنّ الذي ينتهج سياسة الغدر والكذب والخداع هو في الحقيقة يرفض منهج الحياة التي تقوم على أساس المعرفة ، تلك التي لا يكون هناك مشروع للحياة من دونها ، بلْ إنّه في حقيقته لا يمتلك إرادة المعرفة لبلوغ الحقيقة وتفرّعاتها وانعكاساتها على الحياة.
إنّ السياسي الجاهل هو ذلك الذي ينتهج الكذب ويمتهن الغشّ ، وهو ليس إنسانَ الحق ، لذلك فهو بعيدٌ عن الحقيقة . أمّا السياسي العارف ، فهو الذي يقدّس المعرفة ويحملها فكرا وسلوكا ، فهو إذا يعطي ولا يأخذ ، ويضحّي ولا يغدر، إنّه في سير دؤوب طلبا للحقيقة وتثبيتا لأركانها.
لقد سعى سياسيو الأنظمة الشمولية تماما كما يفعل إخوان تونس اليوم ، إلى التلاعب بالواقع كما يشاؤون ، فهم يحرّفون الحقيقة وفق ما تقتضيه مصالحهم ، ويجزّؤونها، ويتلاعبون بأبعادها ، وينْظرون إليها من نافذة المنفعة والمصلحة ، ولا وجود للحقيقة في منهجهم وسلوكهم.
لقد تزيّفت الحقيقة لدى هؤلاء ، وتحوّلت إلى أسطورة يوظّفونها ويغلّفونها بغلاف ديني أو وطني ، ويعرضونها بضاعة في سوق الكذب والخداع ، ويستعينون بلغة الخطابة وفنون المراوغة والتضليل ، ليستميلوا بها مشاعر وعقول العامّة من الأفراد والجماعات ، من أجل إضفاء المشروعيّة على برامجهم ومخططاتهم التسلطيّة ، بشكل باتوا معه حالة مرضية مستعصية لا شفاء منها ولا دواء لها .
لقد تحوّل الكذب والخداع والغشّ والمكر والغدر عندهم إلى منهج سلوكي وثقافة يومية يمارسونها للتزوير ، حفاظا على مصالحهم ومنافعهم وتثبيتا لوجودهم . وهم ربّما لا يعلمون أنّ عاقبة هذا المنهج والأسلوب هي التخلّف والدمار والضعف وعدم الاستقرار والضياع الأمني والاقتصادي.
إنّ الكذب ما كان يوما فعلا نبيلا ، والخداع لا يمكن أن يكون وسيلة لغايات وأهداف سياسيّة بنّاءة تحمل في طيّاتها برامج تنمويّة وخططا مؤسّساتيّة تعمل من أجل بناء الدولة ، كما أنّ أهل السّلطة والنفوذ ، مهما أوتوا من قوّة ، لا يمكنهم بأي حال من الأحوال ، طمس الحقائق الواقعيّة وتشويه صورها ، حين يكون هناك رأي صادق يحمله شعب واع شجاع ، يحترم المعرفة ويمتلك الإرادة ، ولا ينخدع بالحقائق المشوّهة …