تحقيق/ فسفاط تونس.. ثروة يستنزفها موظفون أشباح وحوكمة سيئة

 قسم الأخبار-



(المصدر: تحقيق لوكالة رويترز نشر بتاريخ 7 مارس 2019)

يمضي عبد الباسط أغلب وقته كل يوم في مقهى ببلدة المتلوي في جنوب العاصمة تونس دون عمل، لكنه رغم ذلك يحصل على راتب شهري منتظم من الدولة يقارب 280 دولارا.

إنه واحد من بين نحو 12 ألف موظف تصرف لهم شركة فسفاط قفصة المملوكة للدولة رواتب دون أن يؤدوا أي عمل، بعد أن انتدبتهم للقيام بأعمال بيئية ضمن ”شركة البيئة“ التابعة لها في إطار خطط لامتصاص بطالة منطقة الحوض المنجمي الغنية بالفوسفات.
 
وبعد أن كان عدد الموظفين في قطاع الفسفاط لا يتجاوز تسعة آلاف في عام 2010، قفز العدد حاليا إلى حوالي 30 ألف موظف.
 
يقول عبد الباسط البالغ من العمر 45 عاما ”أحصل على 850 دينارا (279.62 دولار) شهريا دون أن أقوم بأي عمل.. هذا يقلقني كثيرا.. انظروا للنفايات المتراكمة في المدينة جراء إنتاج الفسفاط ومع ذلك ليس هناك أي عمل لنا.. إنه فساد دولة“.
 
ومنذ انتفاضة 2011 التي أنهت حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي، انتدبت الشركة الآلاف من الموظفين للقيام بأعمال بيئية بعد موجة احتجاجات تطالب بالتشغيل والتنمية وتسببت في إيقاف إنتاج الفوسفات كلية لفترات وصلت إلى عدة شهور.
 
تلك الموجة من الانتدابات العشوائية التي قال عنها وزير الطاقة والصناعة التونسي سليم الفرياني إن هدفها ”شراء السلم الاجتماعي في منطقة الحوض المنجمي“ زادت من معاناة الشركة التي وقعت بين سندان الإضرابات ومطرقة الانتدابات العشوائية.
 
وشركة فسفاط قفصة، المثقلة بآلاف الموظفين وتضم شركات فرعية من بينها شركة النقل وشركة البيئة، أصبحت أشبه بالبقرة الحلوب حتى تحولت من شركة تحقق فائضا ماليا كبيرا سنويا إلى عبء على الدولة مع ذهاب أغلب نفقاتها في كتلة الأجور.
 
وتصرف الشركة ما يقارب 180 مليون دولار على كتلة أجور موظفيها سنويا، من بينها حوالي 70 مليون دولار مخصصة لعمال البيئة الذين لا يقومون بأي عمل، وفقا للأرقام الرسمية.
 
وللمطالبة برفع أجورهم، أنشأ عمال شركة البيئة نقابة تدعو الشركة أيضا لتوفير وظائف حقيقية.
 
ويقر وزير الطاقة بأن هؤلاء لا عمل لهم، قائلا ”نحن نعي أنهم لا يقومون بأي عمل، وندرس ماذا يمكن أن نفعل لكي نجد شغلا مهما يقوم به هؤلاء الآلاف“.
 
وتسببت الإضرابات ووقف إنتاج الفسفاط ، وهي صناعة حيوية لتونس ومصدر رئيسي للعملة الأجنبية، في خسارة حوالي ثمانية مليارات دولار منذ انتفاضة 2011.
 
وقال الفرياني في مقابلة مع رويترز ”نخسر تقريبا مليار دولار سنويا منذ 2011 بسبب وقف الإنتاج، وهذا رقم مفزع، وكان يمكن أن يجنبنا حتى الاقتراض من صندوق النقد“.
 
وكشفت وثيقة للشركة حصلت عليها رويترز أن أيام التوقف الكلي عن العمل تصل أحيانا إلى 244 يوما في السنة في بعض مواقع الإنتاج الخمسة منذ 2011.
 
وفي مسعى للنأي بإنتاج الفسفاط عن الاحتجاجات المتكررة، كان الرئيس التونسي قد أمر في 2017 بأن يحرس الجيش مواقع إنتاج الفوسفات والنفط، معتبرا أن ضرب الإنتاج يمس أمن البلاد، لكن ذلك لم يحدث إلا نادرا خشية الدخول في مواجهات مع الأهالي على الأرجح.
 
* صندوق النقد
 
في عام 2016، اتفقت تونس على قرض بقيمة 2.6 مليار دولار مع صندوق النقد في 2016. وحتى الآن لم يتم صرف سوى أربع دفعات منه بقيمة 1.4 مليار دولار حتى الآن، لكن كل منها تأخر صرفه بسبب عدم وصول الإصلاحات إلى المستوى المطلوب في إطار البرنامج المتفق عليه.
 
وجاءت رواتب القطاع العام وإصلاح الشركات العامة من بين نقاط الخلاف مع الصندوق.
 
ويتوقع بعض المحللين مواجهة جديدة مع صندوق النقد بعدما زادت الحكومة الرواتب في الشركات العامة، بما فيها فسفاط قفصة والخطوط التونسية والشركة التونسية للكهرباء والغاز.
 
وقالت متحدثة باسم صندوق النقد إن الصندوق يجري ”حوارا مستمرا مع السلطات بشأن السياسات“ في المراجعة المقبلة للقرض، لكنها أحجمت عن ذكر موعد تلك المراجعة.
 
وأضافت ”يدعم صندوق النقد الدولي البرنامج الاقتصادي للسلطات التونسية لتقليص اختلالات الاقتصاد الكلي، بما في ذلك تعزيز التنافسية الخارجية وخفض التضخم وتقليص الديون وتحسين فرص نمو خلق الوظائف عبر إصلاحات هيكلية“.
 
وبعد أن كان إنتاج تونس من الفسفاط في 2010 في حدود 8.2 مليون طن، تراجع العام الماضي إلى ثلاثة ملايين طن فقط متأثرا بالاحتجاجات المتكررة. وفي مقابل ذلك، نما إنتاج المغرب من حوالي 13 مليون طن في 2010 إلى حوالي 30 مليون طن العام الماضي.
 
ذلك أن المغرب استفاد من مناخ اجتماعي مستقر وتطوير صناعته، وأصبح ينقل الفسفاط عبر الأنابيب، بينما تراجع إنتاج تونس وزاد من أوجاع اقتصادها العليل مع هبوط احتياطي العملة إلى ما يعادل 84 يوما فقط من الواردات.
 
ويقول وزير الطاقة الفرياني إن تونس لم تعد على خريطة كبار المنتجين العالميين للفوسفات بعد أن كانت ضمن الخمسة الأوائل في العالم. وتضم قائمة الدول الخمس الأعلى إنتاجا الصين والولايات المتحدة والمغرب وروسيا والأردن.
 
وكان الفسفاط يمثل نحو عشرة بالمئة من صادرات تونس قبل 2011، حين حل زيت الزيتون محله متصدرا قائمة الصادرات. وفي 2018، انكمشت حصة الفسفاط من الصادرات لتصل إلى نحو أربعة بالمئة.
 
* حوكمة سيئة
 
على الرغم من ذلك، لم يكن التراجع الحاد في إنتاج الفسفاط هو العلة الوحيدة التي أنهكت شركة فسفاط قفصة التي كانت تملأ خزينة الدولة بمليارات الدولارات قبل أن تصبح شركة عاجزة.
 
فالحوكمة السيئة أيضا أحد الأمراض التي أصابت قطاع الفسفاط المشغل لنحو 30 ألف موظف.
 
ثمة شبهات فساد تتعلق بنقل الفوسفات وعمليات الشراء والانتدابات العشوائية والمناظرات، وتصل إلى شراء بعض قطع الغيار غير الصالحة.
 
وقال القاضي محمد علي البرهومي المتحدث باسم محكمة قفصة لرويترز إن القضاء فتح تحقيقا بشأن موظفين في الشركة بشبهة فساد.
 
وأضاف ”مراقب حسابات الشركة قدم تقريرا أظهر خروقات في صفقة قطع غيار شاحنات كمية منها غير صالحة للاستعمال بقيمة مليون دينار“.
 
ويقول وزير الطاقة الفرياني إن وزارته تتلقى باستمرار عرائض حول شبهات فساد، لكنه يؤكد أنه ”ليس هناك إثبات لذلك، ومع ذلك نسعى لتعزيز الحوكمة داخل الشركة“.
 
وفي شهر أكتوبر تشرين الأول الماضي، تم حبس كاتب الدولة للطاقة هاشم الحميدي بعد نحو شهر من إقالته من قبل رئيس الوزراء يوسف الشاهد بسبب شبهات فساد ورشوة.
 
وقالت تقارير إن هناك شبهات حول طلبه رشوة من رجل أعمال عراقي مقابل تمكينه من الحصول على الفوسفات والأسمدة بأسعار زهيدة. لكن الحميدي قال لرويترز قبل سجنه إن هذه ”ادعاءات كيدية، ولي ثقة في القضاء“.
 
ولم يصدر حتى الآن أي حكم في القضية. ورفض وزير الطاقة التعليق على الموضوع قائلا ”ننتظر أن يظهر القضاء الحقيقة في هذا الموضوع“.
 
ويشكل الفساد أحد أهم الملفات التي تواجهها الحكومة التونسية، وكانت مقاومة الفساد أحد شعارات انتفاضة 2011.
 
* شبهات نقل الفسفاط 
 
في مقر شركة الفسفاط بالمتلوي التي زارها فريق رويترز، يغطي الغبار بعض القاطرات التي اقتنتها الشركة بملايين الدولارات منذ نحو أربع سنوات ولكنها لم تُستعمل حتى الآن.
 
وقال موظفان بالشركة طلبا عدم ذكر اسميهما إن هذه الصفقة من ضمن الصفقات التي تكتنفها شبهات فساد.
 
لكن رافع نصيب مدير الإنتاج بالشركة رفض هذه المزاعم، قائلا إن ذلك ”كلام بلا معنى“، حيث لم يجر استعمال تلك القاطرات بسبب مشاكل في السكك الحديدية الداخلية قرب مواقع إنتاج الحوض المنجمي.
 
وأضاف أنه تمت ترسية مشروع إعادة تهيئة السكك الحديدية في مواقع الإنتاج على مستثمر تونسي، لكن الشركة اضطرت لسحب المشروع منه بسبب إخلالات في تطبيق شروط التعاقد.
 
إن نقل الفسفاط يظل من أكبر الموضوعات المثيرة للجدل، فما أن تطأ قدماك مدن الحوض المنجمي التي زارتها رويترز، حتى يخبرك أغلب من تلتقيهم بأن بعض أصحاب النفوذ المالي والسياسي يسيطرون على نقل الفوسفات بالشاحنات.
 
وقبل أشهر، نشر مدونون صورة لحائط من الأسمنت بني على السكة الحديدية في منطقة قفصة وصور أخرى لشاحنات تلقي التراب على السكة لمنع مرور عربات القطار التي تنقل الفسفاط .
 
ونصف إنتاج الفسفاط ينقل عبر الشاحنات وينقل النصف الآخر عبر القطارات، وفقا لما قاله وزير الطاقة لرويترز، مضيفا أن الحكومة لديها برنامج لزيادة نقل الفوسفات عبر القطارات مع خطط لشراء عربات وتهيئة السكك الحديدية بشكل أفضل لخفض التكلفة.
 
ويقدر مسؤولون سعر نقل الطن الواحد من الفسفاط عبر الشاحنات بحوالي عشرة دولارات مقابل ثلاثة دولارات فقط عبر القطارات.
 
وتزيد الحوكمة السيئة ونقص الشفافية في القطاع إحباط شبان المنطقة الذين يقولون إنهم لم يجنوا من الفسفاط سوى الأمراض.
 
يقول معز، أحد سكان المتلوي، لفريق رويترز قبل مغادرة البلدة ”انظروا حال المتلوي.. هذه البلدة التي توفر ثروة بمليارات الدولارات للبلاد لا تجن سوى الأوساخ والأمراض لأهاليها ولا يستفيد منها إلا الفاسدين.
 
”فقط تعودنا على سماع أن تونس تخسر المليارات عندما يتوقف الإنتاج أياما، ولكن لا نرى مليارا واحدا عندما يستمر الإنتاج سنوات دون انقطاع“.
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.