بين التسيير والتغيير: سعيّد سجين شهواته ..أسير للواقع

 بسام حمدي –

"لا تُسيّر الدول بالشهوات ولا الرغبات، والواقع سيفرض حتما على الحاكم الكثير من الاكراهات.." كنا قد انطلقنا من هذه المسلّمات في مقالة  سابقة عنوانها "قيس سـعـيـّد يـأكل شـرعـية 25 جويلية" بعد أن ألفينا التوجهات المالية والاقتصادية لحكومة رئيس الجمهورية تتخالف مع وعوده التنموية وبل تتقاطع معها خاصة في ما يهم تحسين معيشة المواطنين، وهذه المسلمات في الحقيقة لا تنسحب فقط على الواقع الاقتصادي للبلاد في فترة حكم الرئيس، بل تنسجم مع ارتباكه في السلطة وانتهاجه مسارين اثنين طيلة الفترة التي تلت 25 جويلية 2021، مسار تسيير وآخر للتغيير.

 

بين الاستجابة لخياراته السياسية الذاتية، وتسيير دواليب الدولة الواقعية، وجد رئيس الجمهورية قيس سعيد نفسه أمام طرفي سلطة، طرفا لتسيير الدولة  وآخرلتغيير النظام وتنفيذ مشروعه الفكري، حتى ألفيناه بعد فترة وجيزة من إقرار خيارات 25 جويلية سجين شهواته السياسية وأسيرا للواقع الاقتصادي والاجتماعي، غير قادر على أي فعل أي منجز تنموي أو شعبي يمس القدرة الشرائية أو التشغيل أو الكرامة الانسانية.

 

وتستبد فكرة التغيير ونظريات البناء القاعدي بعقل الرئيس قيس سعيد وتعيق أداءه، بل وتربكه عند محاولته التغيير والتسيير في آن واحد، ولم يفلح، حسب رأينا، في تحديد أولوياته ما بين البدء بالاصلاح ومحاربة الفساد وهدم منظومة فاسدة وبين التأسيس للديمقراطية المجالسية فضاعت بوصلته وباتت قراراته تراوح بين الهدم والبناء، هدم لوبيات الفساد المالي والسياسي وبناء أسس البناء القاعدي، وإلى حد اللحظة لا محاسبة جرت ولا إصلاح حصُل.

 

ورغم اقتناصه فرصة ملل التونسيين من المنظومة التي حكمت البلاد بعد الاطاحة بنظام بن علي، وتوظيفه الاحتقان الشعبي لاسقاط حكم النهضة وحلفائها، لم يدرك رئيس الجمهورية أن من غضبوا وانتفضوا ضد الأحزاب وطالبوا بالتشغيل والكرامة، لا يحتاجون اليوم إلى استشارة وطنية أو تعديلات، رغم أهميتها، بقدر ما هم في حاجة إلى خبز ومواد أساسية وإلى أسعار تتناسب ورواتبهم الشهرية، فعجّل بتلبية ما يحتاجه فكره السياسي لا إلى تلبية المطلب الشعبي.

 

ويتضح أن رئيس الجمهورية لم يرتب أولويات الحكم وفق سلم وطني اقتصادي وتنموي، بل إنه احتكم إلى سلم ملذات فكرية ذاتية تخلع أبواب الحكم لتفتح لنفسها باب التأسيس، فتونس اليوم يعاني شعبها ويلات غلاء الأسعار وتدهور المقدرة الشرائية، ونسبة الفقر فيها تلامس أغلبية أفراد المجتمع، ورئيسها يحتسي أفكاره في قصر قرطاج وأحلام الحكم القاعدي تراوده وتشده إليها حد العناق.

 

وكما قيّدت أفكار سعيد منجزاته الاقتصادية والاجتماعية وجعلته سجينا له، اعتقل واقع البلاد مشروعه السياسي واصطدم بحقائق كثيرة عرقلته وبدأت في جذبه إلى دائرة اللامبالاة، ونسبة المشاركة في الاستشارة الالكترونية ماهي دليل من لامبالاة شعبية بالطموحات السياسية للرئيس، فكان الرد بالمثل لامبالاة لا رئاسية بالواقع الاجتماعي تقابلها لامبالاة شعبية باستراتجيتيه السياسية.

 

وبقي رئيس الجمهورية في دائرة التوعد والوعود، توعد بمحاربة الاحتكار واصدار مرسوم خاص به، ووعود بتحسين معيشة التونسيين، دون جدوى ولا فاعلية أو نجاعة ملموسة، فظلت البطون خاوية والأحلام مدفونة.

 

النوايا لا تغير الواقع، وصحيح أن الإصلاح لا ينبني إلا بالمشاريع، لكن المشاريع حريّ بها أن تدار وفع الأولويات، وأولويات البلاد والشعب هي الاقتصاد والتنمية وليس البناء الديمقراطي القاعدي، وكان على سعيد أن يغيّر الواقع التنموي والاجتماعي ويُشبع البطون لينجح في مداعبة العقول، وتلازم مسار التأسيس والتسيير قد يجهض أحلام سعيد ويوقظه على على إنذار اجتماعي احتجاجي.

 

بعيدا عن الشعبوية، شعب هذه البلاد يحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تغيير حقيقي، تغيير في المنوال الاقتصادي والتنموي، وتهذيب لظروف حياته ومعيشته لكي لا يزداد يأسه وينخفض أمله، والقرارات الارتجالية لن تنفع بلادا احتلها الانتهازيون، والحكم يسيّر بالقرارات لا بالشهوات، والشرعية الشعبية التي ارتكز عليها قيس سعيد يوم 25 جويلية 2021، بدأت تتآكل وقد تتحول في قادم الأيام عامل من عوامل الإطاحة بحكمه اذا ما استمر نزيف التفقير والتجويع.

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.