يسرى الشيخاوي-
وانت جالس، تلامس الإنسانية في تجلّياتها المختلفة، يرقص قلبك على وقع ضحكات طفل ونظرات حب، وتبكي روحك على نسق نزيف جراح بعضها مرئي وبعضها هلامي، وبين الفرح والترح تبحث عن الإنسان داخلك وتتزيّن شفتيك بابتسامة كلّما لفظت العيون دمعها.
على نفس المقعد، تعانق المعنى الحقيقي لأن تكون إنسانا وتخبِر مغزى أن تكون الإنسانية بوصلتك حيثما وليت وجهك، تتأرجح بين اليأس والأمل وتقف عند خطّ فاصل بينهما وتغمض عينيك لتمتد يد الإنسانية وتمسح على علل المجتمع وتبتسم الحياة، وأنت جالس في المكان ذاته يحتويك ظلام قاعة ويغازلك نور شاشة في عرض فيلم " بيك نعيش" للمخرج مهدي البرصاوي.
و"بيك نعيش" فيلم عن الإنسان والحب وقصص أخرى، يمدّ جذوره في الإنسانية ويتفرّع منها إلى قضايا اخرى اجتماعية وسياسية واقتصادية ودينية وثقافية، هي القضايا التي عاشت على وقعها تونس بعد الثورة ومازالت.
هي تراجيديا أسرية بنهاية غير كلاسيكية، تجلّت ملامحها الأولى عند سفر عائلة مكوّنة من الأب فارس (سامي بوعجيلة) والأم مريم (نجلاء بن عبد الله) وابنهما عزيز (يوسف الخميري) إلى تطاوين لكسر الرتابة والروتين، والواقع أنّها كسرت استقرارها.
فيما الأبوين يرقصان على إيقاع أغنية يحبّها الابن، تتعالى لعلعة الرصاص مرفوقة بتكبيرات لم تحجب صوت الموسيقى التي اختفت حينما عانق صراخ الأم عنان السماء وهي تخاطب ابنها ولا تسمع جوابا ولكنّها ترى سيلا من الدماء.
هجوم إرهابي يستهدف دورية للحرس الوطني في تطاوين انتهى بإصابة ستة منهم والطفل عزيز ذو الأحد عشر عاما، وغاب صوته الذي يردّد كلمات الاغنية ونطق جسده الجريح دما غشا وجهي والديه وحوّل العطلة إلى مأساة.
وإصابة الطفل في كبده جعل الحقائق تتعرى تباعا، بعد أن كانت موشّحة بورقات توت سقطت الواحدة تلو الأخرى وجعلت معنى الإنسانية أكثر وضوحا، معنى يستمدّ استمراريته وصموده في وجه العاصفة من خزّان الحب والتسامح.
وبعيدا عن الصولات والجولات مع الأصدقاء والتندّر بشأن الأوضاع السياسية، يقف والدي يوسف أمام عالم آخر لا يشبهم كثيرا ولكنهم مجبرون على البقاء فيه لأن وضع ابنهم لا يسمح بنقله إلى العاصمة، ففي بعض الأحيان يصبح المال بلا جدوى.
تفاصيل كثيرة ترجمت بها كاميرا المخرج تردّي الوضع في المستشفيات العمومية التونسية، قبل أن تغوص دواخل والدين يتأملان ابنا يصارع الموت ولا يملكان إلا أن ينتظرا نتائج فحوص طبيّة قد تأتي بالفرج وتبيح لأحدها التبرع ببعض من كبده للطفل الذي أكل الإرهاب كبده.
ولأن المصائب لاتأتي فرادى، فإن الأحداث تتشابك وتتداخل حتّى تغدو في شكل عقدة غير قابلة للحل، عقدة تغوّلت حينما قذف الطبيب المشرف(نعمان حمدة) الأم بنبإ عدم تطابق الحمض النووي للابن والأب، فتعود بالذاكرة إلى عشر سنوات خلت.
هي حقيقة تجهلها الام نفسها، وتعجز كل الكلمات عن وصف ما يعتمر بداخلها، ولكن كاميرا مهدي البرصاوي ترجمت أحاسيسها وجوما وبكاء وصمتا طويلا، وهل لك ان تتخيّل وضعية أم لا تملك غير الدموع تطرد بها شبح الموت عن ابنها ونظرات تفيض كلاما تواسي بها زوجها الذي يريد أن يهب كبده لابنه عاجلا وليس آجلا؟
وعلى نسق الحقيقة الجديدة ورحلة البحث عن كبد للابن تتشظى العلاقة بين "مريم" و"فارس" بعد عمر من اللحمة والتماسك وصارت الصدامية عنوانها، وفيما تبحث الأم عن والد ابنها البيولوجي سامي القلال (محمد علي بن جمعة)، يجازف الأب لشراء كبد لابنه الذي لم ينجبه ولكنّه احبّه كثيرا.
دماء كثيرة يلفظها الابن من فمه، وأنفاس متقطعة ونظرات واجمة شاحبة، و"فارس" يهوم في الصحراء في انتظار كبد تزرع الحياة في ابنه فيأتيه تاجر ممن يشيؤون الإنسان ويهبه ولدا مقابل المال، هل تعلم لما الولد؟ لكي يقتلع كبده ويزرعه لابنه.
لأن "فارس" إنسان بحث للطفل عن مأوى وعاد يبحث لولده عن حياة أخرى دون يسرقه من أحد آخر، وفي الضفة الأخرى تحاول "مريم" عبثا ان تقنع "سامي" بأن يتبرّع لابنه، وفي أوّل لقاء حديث بينهما بعد قطيعة سكت فيها الكلام وفاضت الأعين دمعا والشفاه آهات، وصل الزوجان معا إلى ضفة الحل.
وعلى صورة الابن ماضيا إلى غرفة العمليات بعد أن تبرع له والده وعناق نظرات الزوجان ينتهي الفيلم ويذوب جليد الخلافات على وقع الانسانية، هي الإنسانية التي خاطب بها "فارس" "سامي" وهو يطلب منه ان يتبرع لابنه ببعض من كبده.
ومن المأساة الأسرية خلق مهدي البرصاوي حبطة درامية جال فيها بين قضيا كثيرة بل إنه نبش فيها عميقا وأتقن إيجاد الروابط المنطقية بين الأزمنة والأمكنة والازمات، وهو إنّما يلاحق ذلك العالم الذي يحتكم إلى الإنسانية ولا شيء غيرها.
دون مؤثرات صوتية ولا بصرية، كانت المشاهد واقعية جدّا ولا تخلو من جمالية، هي مشاهد راوح فيها المخرج بين العام والخاص لينطلق فيها في كل مّرو من النواة وهي الأسرة التي تخوض الصراعات دفعة واحدة، وصولا إلى العالم الخارجي الذي يخوض صراعات تتخذ في كل مرّة هيئة جديدة.
آناء الليل وأطراف النهار، تحت السماء وفي الصحراء وبين جدران المستشفى تتعدّد الأماكن والأزمنة وتتأرجح على وقعها المشاهد الفلمية بين القريبة والبعيدة، وإن هي قريبة فإنّها تروي أحاسيس الوالدين وابنهما وإن هي بعيدة فإنّها تأخذنا إلى قضية أخرى لم تقطع الحبل السري مع هذه العائلة.
حكايات كثيرة روتها تعابير وجه الممثلين نجلاء بن عبد الله وسامي بوعجيلة كانت أبلغ من الكلام، وكان الفعل غير اللفظي حمال معاني ورسائل، والصمت الذي يأخذ حيّزا مهما في الفيلم ليس إلا تعبيرة عن بلوغ الذروة في الأحاسيس وبحثا عن أجوبة لا تموت.
وإن انت شاهدت بعضا من لقطات الفيلم التي تجمع بين الأب والأم والابن لن تشكّ لحظة بأنها عائلة حقيقية لما في الأداء من صدق وعفوية ولقدرة الثلاثي أي نجلاء بن عبد الله وسامي بوعجيلة والطفل يوسف الخميري على خلق مساحة من الانسجام، وهو ما يعكس أيضا تناغما بين المخرج والممثلين.
والفيلم لا يسير في نسق خطّي ممل وإنّما يخلق في كل مرة أزمة تتفرع عنها مسارات درامية تحيلنا في كل مرّة إلى قضية مختلفة، ومن الخيانة الزوجية إلى التبرع بالأعضاء والاتجار بها إلى العقلية الذكورية والتعقيدات الإدارية، تظلّ الإنسانية في "بيك نعيش" منطلقا وإليها المنتهى.