الجمهور في مسرحية "ريتشارد الثالث" للمخرج جعفر القاسمي ليس محايدا. هو منخرط في لعبة السلطة. والسلطة في المسرحية سلطات، لانها سلطة الملك ـ الحكم، وسلطة العائلة، وسلطة المجتمع، وسلطة الدين والاعراف والتقاليد.
الكاهنة في أول المسرحية كما في اخرها انبأتنا اننا كجمهورـ شعب، مسؤولون وحدنا عن تربية القمع والتصفيق له وإعادة انتاجه وفي مقدورنا وحدنا ان نخلعه عن حياتنا ، وتلك هي وصيتها الاخيرة.
كان القمع،كل أشكال القمع، حاضرا في مقاطع المسرحية. الظلام والعتمة ورجال الليل الملثمون الذين يعتقلون ويراقبون الحركات والسكنات وينتزعون الاعترافات.
لم يغادر الملثمون المتوشحون بالسواد الركح. كانوا حاضرين في كل المقاطع . إن لم يكونوا بين الممثلين فهم على جنبات الركح يراقبون.
فرقة الملثمين تحضر في كامل مقاطع المسرحية. هي محيطة بريتشارد الثالث كما هي تتنفس في ردهات بيت العائلة وهي نفسها التي تحيط بالشيخ في المسجد.
الملثمون هم الاخرون الذين ينظرون الينا ويراقبوننا ويحيطون بنا ليس حماية ورأفة بنا بل لتسطير وتسطيح حياتنا ووضعها رهن تقاليدهم وقراءاتهم وقراراتهم.
الاخر أو الاخرون في مسرحية “ريتشارد الثالث” هو القمع بعينه. ليس قمعا سياسيا فحسب بل كان قمعا دينيا اجتماعيا اخلاقيا. مقطع السكير المعربد على الركح الذي يدخل بيته مع طلوع الفجر، ومقطع الزوجة التي تعيش الحرمان الجنسي نتيجة عدم اكتراث زوجها أو عجزه ، كلها تجليات للقمع الذي يؤثث كل نصوص المسرحية المتداخلة.
المسرحية هي نصيا تداخل نصوص وهي من هذه الناحية كسر لأحادية النص. فهي نص بثلاثة لغات: العربية والعامية ولغة الاشارات. هي نص بالعربية الفصحى مستوحى من مسرحية ريتشارد الثالث لويليام شكسبير (الفت سنة 1591)، وهي نص عامي باللهجة التونسية مستوحى من تفاصيل الاحياء الفقيرة يفضح الفاقة وعقلية التحريم والعار الاخلاقي.
في ريتشارد الثالث الذي ادى دوره بنجاح الممثل المسرحي الشاب الصحبي عمريشعر الممثلون ، كما الجمهور، بالقمع والرعب إضاءة واصواتا وأغاني ريفية حزينة تفتح بها المسرحية و تغلق بها.
ممثل ريتشارد الثالث المتسلط ادى نفس دور الاخ الاكبر في عائلة تسكن أحد الاحياء الشعبية. أخ أكبر في السلطة وفي العائلة على رواية جورج أورويل الذي اصدر روايته الشهيرة بنفس التسمية لفضح اليات القمع.
في افتتاح المسرحية يتبادل الممثلون قماشا أبيض يحملونة من يد الى يد لتتوشح به صاحبة الصوت الريفي الحزين. لا ندري هل كان الوشاح كفنا أم فستان فرح مع تفسير أقرب للسياق بان الامر يتعلق بمأتم يؤثثه كل الممثلين الحاضرين فوق الركح منذ بداية المسرحية وهم نبيلة قويدر وفاطمة الفالحي وسماح التوكابري وربيع ابراهيم وعصام بالتهامي وخالد الفرجاني.
القمع هو بطل المسرحية بلا منازع لانه يلف حياتنا ويحاصرنا من كل جهة. هو القمع السياسي وهو خاصة القمع الديني الذي يجعلنا نتخدر مع الحلقة الصوفية الوجدانية وهو أيضا دعاء جماعي على اثر تحية السلام بعد صلاة الجماعة.
على الرغم من سيادة القمع وتوريط الجمهور في مباركته والتصفيق له فان المسرحية تتيح امكانيات الخروج من دوائر الاستبداد وعيون الاخرين ومراقبتهم لانها في لحظات تحول الصلوات والدعاء الى هرطقة وكفر وتمرد وعبارات نابية على الواقع المزري المتردي ..
المسرحية هي أيضا واخيرا دعوة الى الخروج عن اوهام المثقفين وتهويمات الايديولوجيا . أوهام تنكسر في مقطع عجوز الاحياء الشعبية وهي تبحث عن مفتاح الضوء في المرحاض لتقضي حاجتها فلا تجده.. فتقرر ان تقضي حاجتها في صحن المنزل.