بذريعة التصدّي له

ما فتئتْ الإدارةُ الأمريكيّة تَسْعى إلى تَجاهُلِ الحقائقِ الموضوعِيّة التي تؤكِّدُ صُعُودَ قُوىً دوليّة وإقليميّة (روسيا ،الصين،دُوَل البريكس، إيران وكوريا الشمالية..) مُزِيحَةً باقْتِدارٍ قبضَةَ واشنطن عن دفَّةِ السياسةِ الدّوليّة التي تُبْحِرُ نَحْوَ مُسْتَقْبَلٍ بَشَريٍّ لم تَعُدْ سياسةُ القطْبِ الواحدِ قَدَرَهُ المحتوم.

هذا الواقع الموضوعيّ الجديد كانَ يَفْتَرِضُ أن يُعيدَ الإدارَةَ الأمريكيّةَ إلى التَّعَقُّلِ والقَطْعِ مع الغَطْرََسَةِ خاصَّةً بَعْدَ سُقُوطِ سياساتِها الخارجيّة التي رَفَعَتْ شعارَ "تصدير الدّيمقراطيّة" ضدَّ أنظمةٍ وطنيّة عبْر العالم في وَحْلِ انهيارِها الأخلاقيّ الدّامي كنموذج فاقِع لليبرالية المُتَوَحّشة من كابول إلى بغداد ومن غوانتنامو إلى العامريّة وأبي غريب ، إلا أنّ هذه الولايات المتحدة وبكلّ "صحّة رقعة" حسب المصطلح التونسي الدارج تعبيراً عن الإمعان في الوقاحة ، لم تَدّخِرْ جهْداً لِشَيْطَنَةِ الأنظمةِ الوطنيّة ورَجْمِها بتهمةِ الدكتاتوريّة (وكأنَّ حليفاتها الكيانات الخليجيّة مثَلاً تُنافس السُّويد وبقيّة الدول الاسكندنافيّة في تطبيق مبادئ وآليات الديمقراطية أوفي احترام حقوق الإنسان!) وفي وقْت تُمارسُ فيه واشنطن ومحوَرُها الغرْبي الصهيوني الأطلسي الأعرابي أبشَعَ أشكال الدكتاتوريّة الدّوليّة والإقليميّة والمحليّة التي ارْتَكَبَتْ وتَرْتَكِبُ أبْشَعَ جَرائمِ الحرب ضدَّ شُعُوب الدُّوَل المُستَهدَفَة مِن خلال جُيُوشِ تَحالفات الولايات المتحدة العدوانيّة ، كما حَصَلَ في أفغانستان والعراق وليبيا ، أو مِن خلال جراثيم الأوبئة التكفيريّة  مُسْبَقَة الصّنع في مُختَبَراتِ المُخابَرات الأمريكيّة والإسرائيليّة التي أطلقَتْها تعيث فسادا وتخريبا فتُدَمِّر وتحرق وتسرق وتسبي وتذبح كما هو حال تنظيميّ "القاعدة" و"داعش" وسواهما من تنظيمات الجماعات الإرهابيّة التكفيريّة في سوريا والعراق .

وفي هُرُوبٍ أحْمَق إلى الأمام باتجاه الهاوية الوسيعة العميقة تُواصِلُ عاصِمَةُ أحْفاد البقر دَعْمَ الجّماعاتِ الإرهابيّة المُسلّحة التي تتدَفَّقُ على سوريا مِن القارّاتِ الخَمْس بتَمْويلٍ خليجيّ وتسْهيلاتٍ لوجستيّة تركيّة خالِعَة على رُهُوط شذّاذ الآفاق مِن التكفيريين والمرتزقة صِفَةَ "المُعارَضَة السّوريّة".

وفي سياق هذه السياسة الأمريكيّة القائمة على الفوضى المفتوحة على أسوأ النتائج والتداعيات تزعمُ إدارة باراك حسين أوباما ( تذكروا الآن تركيز هذا الداعشيّ الأكبر على أصوله الإسلاميّة وزيارته إلى القاهرة وخطابه الأزهَريّ فيها؟) أنّها مَثَلاً أقامَتْ تحالُفاً "دوليّا" ضدّ الخطَر الإرهابيّ الذي يُمثّلهُ تنظيم "الدولة الإسلاميّة في العراق والشّام" ، لكنّها عمليَّاً تقومُ بتقوَية مُجرمِيّ "داعش" بالمال والسلاح والمقاتلين تحت غطاء دَعْم "المُعارَضة السورية" المَزعومة ، الأمْر الذي يتنافى تماماً مع الأهداف المُعلَنَة لما يُسَمّى "التَّحالُف الدُّولي ضدّ الإرهاب".

وإذا كانت واشنطن صادِقة ً في ادِّعائها أنّها مُتَّفِقة مع موسكو في أنّ  انهيار الدولة السورية بقيادة الرئيس بشار الأسد "سيُخلي الساحة للجماعات الإسلاميّة المتطرفة ولاسيما تنظيم داعش الإرهابي" كما جاء على لسان "جون برينان" مدير المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) ، وأنّ الولايات المتحدة وحلفاءها في العالم والمنطقة مثلهم مثل روسيا "لايريدون انهيار الحكومة والمؤسسات السياسية في دمشق " وأنّ آخر ماتريد واشنطن رؤيته السماح للقاعدة وداعش السَّير نحو دمشق حسب تعبير "برينان" نفسه أيضا ، فإنّ المطلوب من واشنطن في هذه الحالة ليس العودة إلى معزوفة "دعم قوات المعارضة السورية المسلحة غير المتطرفة" (كيف تكون المعارضة قوات مسلحة وغير متطرفة ؟ وماهو التطرف إن لم يكُن استخدام العنف وفرض الموقف والرأي السياسي بقوة السلاح؟) ، إذن فالمطلوب من الأمريكان إن كانوا جادّين في مكافحة الإرهاب واجتثاث خطره تجفيف كلّ أشكال دعمهم لجميع أشكال المعارضات المسلحة ،  وقبل ذلك الضغط الأمريكي الجاد والحاسم على حلفاء واشنطن في تركيا والخليج الأعرابي والكيان الصهيوني لوقف سائرومختلف التسهيلات والتمويلات التي تواصل تقديمها للجماعات التكفيريّة المسلحة بما في ذلك "داعش" و"النصرة" فرع القاعدة في سوريا وغيرهما.

واللافِتُ هُنا أنَّ ما ألْمَحَ إليهِ "جون برينان" أمام مركز أبحاث "مجلس العلاقات الخارجية " في نيويورك ، صرَّحَ به وزيرُ خارجيّة بلادِهِ "جون كيري" عندما قال لمحطّةِ "سي بي إس إن" يوم السبت 2015/3/14إن على الولايات المتحدة الأمريكيّة أن تتفاوَضَ مع الرئيس السوري بشّار الأسد لإنهاء الحرب في سوريا ، وهذا يعني اعتراف من واشنطن بأنها هي التي تقود الحرب ضد سوريا منذ أكثر من أربع سنوات بأدوات مختلفة كالتنظيمات الإرهابية التكفيريّة و"قوّات المعارضة المعتدلة!" وبهذه الصفة "القياديّة" تعرض "التفاوُض " كتعبير أمريكي عن الإعتراف بالهزيمة أمامَ صُمود شعبنا السوري العظيم بجيشه العقائدي الباسل وقيادته الوطنية الشجاعة.

ولكن يجب التعامُل بحذر مع هذا السلوك الأمريكي الجديد وعدم الإطمئنان إلى نعومة جلد الأفعى وتراخي العقرب والإنخداع بألاعيب الثعلب ، ذلك أنّ واشنطن التي أرسَتْ دعائمَ وُجُود "داعش" في العراق وسوريا وربّما قريباً جدّا في ليبيا ومنها إلى تونس في الطريق إلى الجزائر ، لا تجد نفسَها مَعنيَّةً أو مسؤولةً عن تداعيات سياساتها التي تُفْضي وستُفْضي أكثر إلى ارتفاع الخسائر البشريّة باضطراد في صفوف ليس فقط قوات الجيش والشرطة والأمن بل وفي صفوف المدنيين في العراق وسوريا وليبيا وتونس مِن جرّاء "المكافحة الأمريكيّة" للإرهاب الذي صَنَّعَتْهُ الولايات المتحدة الأمريكيّة نفسها وتقيم التحالفات الدوليّة للتصدّي المَزعوم له!.

آخر الأخبار

الأكثر قراءة

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.