لا أحد ينكر ضرورة مواكبة الفكر للسياسة بل وربما ضرورة أن يتوفر الزاد الفكري الذي يخدم السياسة باتجاه تطوير الفكر السياسي وضمان جودة العمل السياسي والجدوى منه.
لكن من أول وهلة، وبحُكم العلل الظاهرة والباطنة التي تنخر الجسم السياسي في تونس (وفي الوطن العربي)، قد يبدو اقتراح مادة فكرية ومعرفية لغاية حلحلة أزمة سياسة أمرا غير متسق مع الأعراف والآداب السياسية.
مع هذا سنسعى إلى كسر هذا الحاجز ونقترح مقاربة – شاملة ومتعددة الأبعاد والوظائف -وذلك ابتغاء الإسهام في إدارة المشكلة السياسية في تونس الآن. أما حرصنا على مخالفة الأعراف والآداب السياسية فمردّه انطلاقنا من مبدأ لطالما آمنا به وأثبتنا صحته ألا وهو استنفاذ تقريبا كل الذخائر والموارد الفكرية التي من شأن المجتمع السياسي في تونس النهل منها والتعويل عليها للخروج من الأزمات ولتجاوز الأزمة الراهنة من باب أولى.
لقد بلغ مجتمعنا حدّا من الجمود جعله يدور في حلقة مفرغة. فلا الندوات الفكرية ستسفر عن نتائج عملية ولا حلقات التكوين في التربية والتعليم وفي الصناعة وفي التجارة وفي أيّ مجال آخر ستثمر إجراءات عملية لتطوير الحياة ولا الشعب من شغالين وموظفين ومدرسين ومهندسين وأعوان الصحة العمومية وغيرهم سيقدّرون واجباتهم حث قدرها ويضطلعون بها على وجهٍ مرْضٍ من دون تحريك عزائم هؤلاء وكل القوى الحية بواسطة أداة ابستمولوجية تكون بمثابة الحفّاز أو المسرّع لكل واحدة من العمليات الهادفة إلى تطوير المجتمع، وبالتالي تكون بمثابة الأداة المُسرّحة للاحتقان العام والسياسي.
1. النمذجة كحَفّازٍ ومُسرِّعٍ ومُسرّحٍ
في هذا السياق نعرض على النخب وعلى الطبقة السياسية بالخصوص مقاربة لئن كان اسمها متداولا في المعاجم الفلسفية والعلمية – ألا وهي"النمذجة" – فإنّنا نعتزم عرض نسخة تونسية منها، تكون مُبيئة ثقافيا ومجتمعيا حسب متطلبات المجتمع العربي الإسلامي إجمالا والمجتمع التونسي على وجه الاستعجال.
لكن قبل ذلك لا ضير في أن نعرّف النمذجة. هي تقنية تستعمل في مجالات عِدّة كالصناعة والمعلوماتية لكنها تستعمل أيضا في السياسة العليا أي لإدارة الصراعات العالمية الكبرى. لقد استخدمت النمذجة من طرف الولايات المتحدة الأمريكية – وبطبيعة الحال من طرف بعض البلدان المتقدمة الأخرى- لخوض الصراعات الإيديولوجية والتحضير للحروب بل ولكسب هذه الحروب.
وقد يكون أدل مثال على ذلك مثال أمريكا التي توصلت في بداية التسعينات من القرن المنقضي إلى تبليغ فكرة عوضا عن فكرة إلى العالم بأسره. لقد غرست في عقول مئات الملايين في العالم فكرة مفادها أنّ العراق يمثل الإرهاب وأنه يجسد تنظيم القاعدة تحديدا وأنه يمثل الإسلام. كما رسخت في عقول سكان العالم، بمفعول تراكم "النماذج" المختلقة للغرض، فكرة أنّ الإسلام هو الإرهاب، معاذ الله.
كان هذا توصيفا مقتضبا لمثال عن النمذجة كما هي مستعملة لغايات شريرة والتي وفقت فيها الولايات المتحدة إلى حد كبير حيث إنها أقنعت العالم بأن العراق ينبغي أن يُضرب ويعاقب ويُستعمر بدعوى أنه يجسد الشر. و هو مثال يتسم باستبدال فكرة خاطئة مكان الأفكار الصحيحة. لكن ماذا لو استعملنا النمذجة لغايات خيرية، في تونس أولا ثم ربما في كل مكان من العالم؟
لمّا تكون النمذجة مستعملة بوجهها المفيد، في الصناعة أو في مجالات أخرى ، مادية أو رمزية، فهي تتمثل في وليد "نماذج" من "أصل" وتكون هذه النماذج أقرب ما يمكن من الأصل لكنها ليست الأصل. والفرق بين الأسلوب النافع والأسلوب الضار هو أنّ الأول يزوّد الفرد والمجتمع بنماذج من السلوكيات والأفعال والمشاريع تقترب قدر المستطاع (حسب الوعي والمستوى العلمي للنخب) من الحقيقة والحق، بينما يتميز الأسلوب الضار بتزوير الحقيقة وهضم الحق.
2. كيف هيأنا البراديغم المنمذَج ، ولماذا وفيمَ يمكن استعماله؟
لقد هيأنا براديغم النمذجة حسب الرسم التالي:
*بين الإسلام والسياسة.
*بواسطة نموذج أصلي مستخرج من النظام اللغوي.
*من أجل تسهيل التواصل بين الدين والسياسة والحسم في مسألة الخلط والمزج بينهما من عدمه والذي طالما أدى إلى الاستقطاب الإيديولوجي والسياسي وإلى الانقسام المجتمعي وبالتالي تسبب في الاحتقان السياسي وتعثر أو توقف كل حوار فضلا عن تعطل العمل المنتج للثروة وللسعادة.
3. ما هي الأساسات العلمية للنمذجة الدينية السياسية؟
يشتمل برنامجنا للنمذجة على عديد المبادئ سنتولى تقديم الاثنين الأهم منها: الأس الأول (وهو ذو وجهين اثنين) هو أن الله هو الحق وكلام الله حق. و لا أحد بإمكانه إدراك الحق والحقيقة بالتمام والكمال. هذا من جهة. و من جهة ثانية فاللغة تعبّر عن الحق وعن الحقيقة لكن الكلام الذي يقوله زيد والكلام الذي يقوله عمرو ليس مقدسا مثلما هو الأمر بشأن كلام الله عز وعلا.
أما الأس الثاني الذي ترتكز عليه فكرة النمذجة بين الإسلام والسياسة بواسطة اللغة فيتلخص في ما يلي: من الأفضل أن نتعامل مع بعضنا بعضا على قاعدة غير مقدسة، اقتداءً باللغة وفلسفتها ووظيفتها، عوضا عن تناول المسائل الدنيوية من زاوية المقدس (النص الديني والنقل عموما). تلك هي فلسفة النمذجة على طريقتنا.
4. كيف نولد النماذج وما هي النماذج وفي أي مجال نطبقها؟
لقد جربنا صياغة نماذجَ في السياسة، هي من أصل الدين لكنها غير مقدسة من جهة وغير مباشرة من جهة أخرى. أي أنّ هذه النماذج – وهي عبارة على مخططات وتصاميم ورسوم واستراتيجيات سياسية – أردناها أن تكون معبرة عن التديّن بصفة ضمنية وذلك لغاية حفاظها على منسوبٍ من العقلانية يكون مشتركا بين المتدين وغير المتدين، بل بين المؤمن وغير المؤمن.
وكَون هذه التعبيرات السياسية (النماذج) منبثقة عن أصل الدين لكنها غير مقدسة فذلك يعني أمرين اثنين. يعني ذلك من جهة أنها تستبطن نماذج من التفكير الديني ومن السلوك الديني ومن الخطاب الديني، أي أنها عبارة على مرايا تعكس قرارات تصلح لأن تتبناها الأفراد والجماعات والمجموعة الوطنية بوصف هذه القرارات نتاجا لطرائق وأساليب في فهم الدين وفي التعبير عن التدين متسقة مع واقع وتطلعات المجتمع. كما يعني ذلك من جهة ثانية أنّ النماذج السياسية غير ملزِمة بالإيمان وبالتدين.
ويجدر التشديد على أنّ تلكم الطرائق والأساليب التي تسند السياسات المستجدّة (النماذج) لا تحيد عن المنهاج الرباني والنبوي الأصلي لكنه فقط مُحيَّنة حسب حاجيات المسلم المعاصر وحسب العصر وظروف الحياة فيه وحسب المناخ الفكري التعددي الذي يشترطه العصر.
مع هذا ففي المقابل يجدر التشديد على أنّ السياسات المبنية على تلكم الطرائق والأساليب، بالرغم من أنها ليست ملزِمة دينيا كما قدمنا إلا أنها مُلزمة ثقافيا ومجتمعيا وأخلاقيا طالما أن طريقة بناء هذه السياسات قد وفرت مبدئيا الحدّ الأدنى من الوحدة العقدية (المجتمعية العامة) وبالتالي قد وفرت ضمانة الوفاق الواسع أو "العقد الاجتماعي".
5. ما هي التصحيحات المستعجلة والتي ينبغي تمريرها فورا داخل نسيج الفكر السياسي؟
يتعلق الأمر بنماذج موجودة، حية وفاعلة وتتجلى في شكل مسلمات خاطئة. ونحن نقدّر أن هذه النماذج والمسلمات الناجمة عنها أثبتت أنها مضرة وأنها ساهمت ومازالت تساهم في جمود الفكر والسياسة. وكنتيجة لهذا التقدير نعتقد أنّ الحكومة المزمع تشكيلها برئاسة السيد المهدي جمعة مطالبة بالتحفيز على قلب هذه المسلمات الخاطئة رأسا على عقب بل وبرمي حجر الأساس لإصلاحات تكون متمحورة حول النتائج التي سيسفر عنها القلب والتصحيح.
وهذا العمل قابلٌ للتحقق بفضل زرع نماذج مستحدثة وأيضا بفضل نسخ النماذج الضارة واستبدالها بنماذج تكون الأقرب من الحقيقة ومُسفرة عن مسلمات مصححة. وفي ما يلي أهم الثنائيات بهذا الشأن:
أ.
الخطأ: تونس صغيرة وفقيرة/الصواب: تونس كبيرة وثرية.
ب. الخطأ: أن نعمل لدنيانا كأننا نموت غدا/ الصواب: أن نعيش لدنيانا كأننا نعيش أبدا.
ج.
الخطأ: أن ننطلق من صورة الواقع لبناء تصورات للمستقبل/ الصواب: أن ننطلق من تصورات للمستقبل لبناء الواقع الحاضر.
د.
الخطأ: اللغة العربية لغة تعاني من أزمة لذا يتوجب التعويل على اللغات الأجنبية للحاق بركب الحضارة/ الصواب: اللغة العربية تعاني من أزمة لذا يتوجب حسن توظيف اللهجة العامية واللغات الأجنبية لتطوير اللغة العربية.
6. عمليا، كيف يمكن لحكومة إدارة الأزمة استخدام مقاربة تصحيح العقائد الخاطئة لتسوية الملفات الحارقة التي تنتظر حكومة المهدي جمعة؟
بإمكان رئيس الحكومة المقبل مثلا تكليف فريق من الخبراء الذين يتم مسبقا إطلاعهم على برنامج تصحيح المسلمات والعقائد وتشريكهم في إعداد نماذج تشكل في النهاية مقاربة تنفيذية للبدء فيما بعد في إدخال البرنامج التصحيحي حيز التنفيذ وذلك بالتنسيق مع الوزارات والهيئات الفنية، كل حسب الملف الحارق أو الملفات الحارقة المطروحة أمام أنظارها من جهة والمسلمات الخاطئة المزمع التعاطي معها من جهة ثانية.
والخلاصة هي أنّ بفضل تطبيقات التصحيح والإصلاح والزرع التي توفرها لنا النمذجة بين الدين والسياسة عن طريق اللغة بإمكان تونس أن تنكبّ من الآن على تطوير مجالات النشاط الإنساني كافة. أما الغاية من اقتراح تنزيل هذه المقاربة، اليوم قبل الغد، وعلى يد الحكومة الانتقالية المزمع تشكيلها و دون انتظار حكومة ما بعد الانتخابات، فهي مساعدة العقل المجتمعي في تونس، والعقل السياسي على الأخص، على إعادة هيكلة نفسه بفضل البراديغم الجديد وذلك من أجل تنصيب حجر الأساس لسياسة كبرى دائمة تتولى صياغتها وتنفيذها الحكومات الموالية للحكومة الانتقالية.
بالنهاية إنّ الغاية الأولى والأخيرة من ضخ البراديغم المستحدث في المجتمع وفي الدولة تكمن في الحاجة الماسة لتسهيل عملية تغيير الفرد والمجتمع وأيضا تغيير طرق التفكير والتنفيذ لديهما من أجل استتباب الأمن والأمان وبلوغ السِّلم الاجتماعية وإنجاز الارتقاء الحضاري وتحقيق السعادة.