13
عبد الجليل عمائرة-
لا تخرج حركة النهضة التونسية عن دائرة الإسلام السياسي ، لكنها لا تشبه الصحوة الماليزية و الجبهة السودانية و العدالة و التنمية التركية و غيرها من تجارب الإسلام السياسي حول العالم في تفاصيلها و تعقيداتها و ممارساتها السياسية في الحكم و خارجه ، رغم أنها تنهل من نفس المراجع و تعتبر إحداها امتدادا للأخرى إما تأثيرا أو تأثرا.
و قد تأثرت حركة النهضة حتى بتجربة الخميني في إيران ، و مرت بطور العمل السري و تورطت في أعمال عنف في خضم تأثرها بسياسة تجفيف المنابع ، التي انتهت بتهجير أبرز قياداتها قسرا ، لكنها لم تجرب الحكم إلا بعد ثورة 14/17 ، فكان من الطبيعي أن يتسم أداؤها بالارتجال و أن يكون الخوف طاغيا على مردودها السياسي و كأن تجربة الحكم لأول مرة بمثابة القفز في المجهول عندها.
و عوض أن تتحرر الحركة من الخوف بعد قرابة عقد من الزمن على خوضها غمار الحكم لأول مرة ، تعزز لديها هذا الشعور حتى استحال حالة مرضية أشبه ما يكون بالفوبيا ، فوبيا الاستئصال التي صارت تطارد الحركة و قيادييها و تكبل أداءها و تثير سخط بعض مناصريها أحيانا ، و كأن لعنة الماضي البغيض قد تركت فيها جرحا غائرا يصعب اندماله.
اكراهات السياسة و بداية تشكل فوبيا الاستئصال
لئن كان من الطبيعي أن تصاب حركة النهضة برهبة في بداية التصاقها مع الحكم تؤثر في أدائها ، فإنه من غير الطبيعي أن تستحيل هذه الرهبة رهابا مرضيا مزمنا بعد ذلك ، إذ كان من المتوقع أن تتحرر من رهبتها و خوفها و تمسك بزمام المبادرة مع تقدم الأمور ، لكن ما حدث كان صادما ، فقد تصدت الحركة لقانون العزل السياسي ، الذي أعده نخبة من الحقوقيين و كان يمكن أن يمنح الثورة الفتية حصانة تقيها كيد الأعداء المتربصين ، بدعوى الديمقراطية.
أي ديمقراطية هذه ، أن تتحالف مع جلاد الأمس و تقرر المصالحة و تفوض للشعب مسألة عزل الفاسدين عبر صناديق الانتخاب.
لعلها اكراهات السياسة و الأوراق التي تخلط تحت الطاولة و الركلات تحت الحزام هي التي جعلت من الخوف الذي يكبل أداء النهضة في الحكم يستحيل رهابا و حالة مرضية مستعصية ، لكن في علم النفس الإفراط في الخوف من الوقوع في شيئ ما يجعلك تقع فيه و أنت تحاول تجنب ذلك.
فهل تساعد النهضة خصومها على استئصالها من الحكم؟
الجلوس على الربوة لا يقي دوما من الطوفان ، فأن تضع النهضة حليفها في الواجهة و تحكم من خلف ستار ، قد يقيها بعض الضربات المباشرة ، لكنه لن يجنبها السقوط في كل مرة.
و هذا التخطيط الإستراتيجي القائم على الركوب جنبا إلى جنب مع الخصم في نفس المركب بدل خيار المواجهة و الصدام ، قد يدفع الغريم إلى إلقاء غريمه في عرض البحر ، و إن لم يتمكن من ذلك و لم تسعفه قواه ، يمكنه في لحظة طيش سياسي أو تهور أن يخرق المركب ليغرق كله بطم طميمه ، ليسارع كل للبحث بمفرده عن سبل النجاة.
و يبدو واضحا أن النهضة تسعى جاهدة لأن تتفادى الوقوف على المنصة ، و في لاوعيها تسيطر تجربة الإخوان المريرة في مصر و تجربتها الفاشلة مع الترويكا في بادئ الأمر ، التي جعلتها تكره الحكم و تخير إدارة الشأن من خلف الستار .
و في واقع الأمر ، نجد الحركة تكرر نفسها لكن بطريقة مختلفة ، فبعد أن وضعت المرزوقي في الواجهة في فترة الحكم الثلاثي المعروف اصطلاحا بالترويكا ، هاهي تبحث عن عراب جديد يأخذ على عاتقه تلقي اللكمات بدلا عنها مكتفية بتحريكه يمينا و شمالا من خلف الستار ، ستار البرلمان الذي تتحكم فيه بأغلبية نيابية نسبية ، و تعدل عن فكرة ترشيح زعيمها للرئاسة ، فموعد طلوعه لم يحن بعد ، ليظل البدر مستترا محجوبا بالغيوم.
لكن حركة النهضة فهمت الدرس جزئيا ، و لن ترشح عرابا من خندق الثورة كما فعلت سابقا ، بل بدأت تدرك جيدا أن الكل قد تخلى عن الثورة و تبرأ منها ، و أول المتخلين عنها المتبرئين منها هي الحركة نفسها ، لهذا ستحرص على تقديم عراب من الخندق المعادي للثورة ، و الذي بدأ يكسب نقاطا و يحرز تقدما لافتا ، كل هذا جعل الحركة تفكر في النجاة و تنأى بنفسها عن خطر الاستئصال الذي بدأ يقض مضجعها و يؤرق سباتها.
الحسابات السياسية و استراتيجية البقاء
تدرك النهضة جيدا أن الإنتخابات التشريعية هي هدفها الرئيس ، و أن قاعدتها الجماهيرية التي نجحت في تركيزها و احيائها بالعمل الدعوي إبان الثورة تمثل خزانها الذي لا ينضب و استراتيجيتها المثلى للبقاء ، و تعرف جيدا أن هذا الشعب متلون و قد ينقلب في أي لحظة ، فالتجمعي الذي ارتدى بعد الثورة قميصا و اعفى لحية طمعا و تملقا ، يمكنه ، في أي لحظة ، أن ينزع القميص و يحلق اللحية ، متى أحس بالخطر و أدرك أن رغيف الخبز تمكسه يد أخرى أطول من يد النهضة ، و لعل الرجل الذي رفع خبزة في وجه «بوليس بن علي» في خضم الحراك الثوري كان تعبيره أصدق من غيره و أقرب إلى الواقع في تونس.
النهضة تعي جيدا هذا كله ، لكن وعيها لن يجنبها الوقوع في مصيدة خصومها في الداخل و الخارج ، فخصمها لا يقل عنها مكرا و دهاء ، و قد يدفعها خوفها الشديد من الاستئصال و الذي استحال رهابا مرضيا بلغ درجة الفوبيا ، و هي تستحضر جيدا محاولة الانقلاب على نظام اردوغان ، الذي كان يمكن أن يؤدي سقوطه إلى سقوط آلي للنهضة ، و تعلم علم اليقين أن السعي لإسقاط الإسلام السياسي لا يزال قائما و الطامحون لذلك كثر و معروفون.
الخوف من الاستئصال لن يمنع حدوثه
رغم اختلاف تجارب الإسلام السياسي في العالم من حيث النجاعة في الحكم أو خارجه ، فإن الخيط الرفيع الرابط بين حركاته المتعددة ، يجعل مصيرها واحدا في نهاية المطاف و هو الاستئصال ، الذي يبقى نتيجة حتمية لا مفر منها ، و لا يمكن للخوف منه أو حتى رهابه أن يمنع حدوثه ، فهو بمثابة الكارثة التي قد تحدث في أي لحظة ، و حتى الاعتداد بسلاح الخصم كأن ينظر الغنوشي للإسلام الديمقراطي و يروج خطابا من قبيل أن الحركة هي الأكثر ديمقراطية في الساحة السياسية التونسية تصريحا بارتدائه جبة الديمقراطية و تخليه عن جلباب سيد قطب المهترئ ، يجعله يقف عاريا لا يستر عورته شيئ على الإطلاق ، فمن استعار كساء سيكون حتما مطالبا برده لصاحبه طال الزمان أو قصر.