يسرى الشيخاوي-
في المدينة العتيقة يسدل الليل خيوطه وتملأ خطوات العابرين من أزقتها الأثير صخبا، وتتناثر همساتهم بين الثنايا المحملة بالتاريخ..
في الطريق المؤدية إلى قشلة العطارين، حيث الموعد الأول مع العرض الأدائي "النقطة العمياء"، تساورك التساؤلات عن تفاصيل هذا العرض الذي يبوح بأسراره في فضاء قيد الترميم..
اختيار مكان العرض حمل "النقطة العمياء" إلى زوايا أخرى أبعد من الخوض فيها على بعد خطوات من التوغل في تجربة تخاطب كل حواسك وتستنطق الصمت داخلك ومن حولك وتنسج منه حكايات لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد..
و"النقطة العمياء" من كتابة وإخراج وأداء منى بن الحاج زكري وابراهيم جمعة ومساعدة الإخراج سوسن الببّة وإدارة الإنتاج آمنة السوسي وإنتاج خليل التريكي ومنى بن الحاج زكري (الأخرين للإنتاج 2022).
"انتبه حضيرة" تشدك هذه العبارات المكتوبة على لافتة علقت في الواجهة عند تجاوز الباب بخطوات، وتمضي نحو المكان المخصص للعرض وأنت تطالع الحواجز التي تحمي البناية قيد الترميم..
وسط خيوط الليل، يتعالى وقع خطوات الجمهور وهو يتجاوز الدرجات إلى الطابق العلوي فيما تتسلل برودة مخدرة من جدران المكان تتهاوى عند أنفاس الجمهور الذي ينشد قاعة العرض..
وسط عتمة ملهمة لا تقطعها إلا بعض أنوار الهواتف الجوالة، تلوح ملامح فضاء مختلف للعرض، لا مقاعد منفصلة، الامر أشبه بالدكة ولا ركح ولا مسافة "شاسعة" بين الجمهور والممثلين..
في البدء كان حديث السيقان، روت ساقا ابراهيم جمعة الكثير من الحكايات، اختزلت الصراعات ورسمت التداني والتجافي بأوجه كثيرة، وصورت الوصال والهجر.
لحظات او ربما دقائق تمر وانت ترقب حركة قدمين وسط الظلام، لا معنى للزمن أمام ما ترويانه من قصص، لا معنى إلا لوقعهما على الارض لتخلقا صوتا يأجج قدرة السكوت على تبليغ كل الرسائل..
حركة القدمين تراوح بين التباعد والتقارب، تجسدان العلاقة بين الرجل والمرأة وما بينها من صراعات وحماقات ومحاولات للتحرر من القيود المفروضة عليهما من المجتمع ومنهما..
الحركات وبنية الجسد المتقوقع على نفسه توحي بأنه لرجل، وعلى امتداد حيز من الزمن لن ترى الا قدميه واصابعه تتشابك وتتلاحم قبل ان تفترق على ايقاع موسيقى تساعدك على فك بعض شيفرات العرض.
غياب النص المنطوق في العرض قد يكون أحيانا منفذا للملل، ولكن زخم الصمت في القاعة لن يترك لك المجال لتطبق جفنيك خشية أن تسقط سهوا حركة أو إماءة تساعدك في التأويل..
فيما كل العيون مشرئبة إلى يسار القاعة حيث يحتمي الرجل بمظلّة تحمل دلالات كثيرة سيبوح بها الحديث عن عناصر السينوغرافيا، تظهر إمرأة في الجهة الأخرى بشعر تمردت خصلاته.
المرأة تطل من إطار سيفصح عن مقاصده هو الآخر فيما بعد، بوجه مكشوف واجهت الكل لكنها لم تلبث أن حجبت جانبا من وجهها بيديها ولونت الوجه الآخر على طريقتها وحضر الأبيض والأسود والأحمر..
الألوان المستعملة في تلوين جانب الوجه المكشوف ليست اعتباطية، كثير من البياض الذي يعكس البحث الدائم عن سلام داخلي، قليل من السواد في رفض لكل السودائية التي تغزو واقع المرأة وقليل من الأحمر، قليل من الحب يكفي لتحلو الحياة.
على نسق موسيقى تغزو داخلك وتملأ ذهنك بصور كثيرة عن المواقف التي عايشتها هذه المرأة حتى بلغت هذه المرحلة من الحكي الصامت، كل جسدها يتكلم دون أن تنبس بكلمة واحدة..
حاجز ممتد في الزمان والمكان يعلو ليباعد بين الرجل والمرأة، والموسيقى تقتفي أثر لغة الجسد وتربت على روحيهما اللتان لا تجدان طريقهما إلى الخلاص وكل منهما يحمل بعضا من الآخر داخله..
هالة من العزلة تحاوط الثنائي الذي تشتت وتناثرت ذكرياته المشتركة لتمد جسرا بينهما لن يظهر إلا في اللحظة الحاسمة حينما يبلغ العبث ذروته وتتحول رقصات الحنين إلى لعبة تخالها في البدء مسليّة لكنها موجعة جدا..
"بعضي لدي وبعضي لديك وبعضي مشتاق لبعضي فهلا أتيت"، كلمات محمود درويش تتسلل إليك وأنت تنتقل بعينيك يمينا وشمالا تلاحق التفاصيل وتنبش في الزوايا وتلتقط الذكريات المبعثرة على قارعة الحنين..
في المجال الذي اكتملت فيه ملامح العرض يعبق الماضي ويصدح التاريخ، صار الجدار الذي تداعى طلاؤه لكنه ظل صامدا جزءا من الصراع الذي تخوضه الشخصيات مع نفسها وفيما بينها.
علامات الطفولة، وأمائر النضج، النشوة والحزن العميق، الإيغال في سجن الذات والتحرر من كل القيود، التماهي والتشتت، الحقيقة والوهم، بعض من الثنائيات التي وشحت العرض الأدائي الذي يروي الكثير عن المرأة والرجل وعن المجتمع..
التصالح مع الذات والنفور منها، الخوف من الآخر وتقبله باختلافه، المواجهة والرهبة، أشياء تستشفها من حديث الأجساد الذي يبوح بالكثير ويفتح آفاقا أخرى للتفكير والتأويل على إيقاع الحركات..
بعيدا عن المعاني العميقة التي يحملها عرض "النقطة العمياء" الذي يقوم على تساؤلات فلسفية وجودية في علاقة المرأة بالرجل، يشدك الانسجام والتناغم بين الثنائي منى بن الحاج زكري (تونس) وابراهيم جمعة (سوريا).
هذا الثنائي الذي أفلح في إيجاد نقطة فاصلة بين التجافي والتداني، هي "النقطة العمياء" الي يسكت فيها الضوء عن الكلام لتتكلم خلايا الجسد ومسامه بأسلوب يجمع بين البساطة والعمق ويفصح عن التواصل الروحي والذهني بينهما.
منى بن الحاج زكري، وإبراهيم جمعة، كلاهما شد إليه الأنظار حتى أنهما يسجنانك في تلك الزاوية الخاصة بكل منهما ويجعلناك تعيش حالة من الانفصام وانت تحاول أن تتابعهما في ذات اللحظة في ذروة حديث جسد أحدهما..
هذا الأداء اللافت للأنظار الذي يستمد فرادته من الاستناد إلى التفاصيل، عزز عنصر المباغتة وخلق نوعا من التشويق عاضدته حركة الضوء في الأرجاء، حركة مراوغة مشاكسة تنهل من خطاب الجسدين.
الضوء في "النقطة العمياء" محدد للانتقال من مشهد إلى آخر، محرك لمنسوب الانفعالات وماسك بزمام الهدوء والثورة في كل الاتجاهات، هو اللعبة التي جمعت الرجل والمرأة والتي أجادها مصمم الإنارة ابراهيم جمعة وموظّبهامحمّد صالح المداني
السينوغرافيا، أيضا، أوجدها جمعة وهي من طينة التفاصيل الاخرى، بسيطة بدلالات كثيرة، إذ اعتمدت على متممات ركحية على غرار مقعدين خشبيين، وإطار مضيء وبعض الأجسام المضيئة الاخرى، وادوات تلوين، وخيط ومضلة، وبعض الحجارة أو ربما أشياء أخرى..
وانت تحاول أن تتمثّل كل الأجسام على الركح، تتخلى عن الامر وأنت تصغي لحديث الأجساد ولكنك قطعا لن تتجاوز دلالات بعضها كما المظلة التي تبدو بمثابة البوتقة التي يحمي فيها الرجل نفسه من شيء ما قد يذكره ببعضه الآخر ، أو هي سلاحه لكي لا يتلقى ضربات المجتمع التي تمطر دون إيذان.
الإطار المضيء، إلى جانب دوره في تصميم الإضاءة، هو إحالة إلى كل الأطر التي يفرضها المجتمع على جسد المرأة ويحشرها داخلها وإذ هي تخطتها أعلنت عصيانها وصارت في مرمى النعوت الموجعة والوصم..
واما الحجارة الصغيرة التي تناثرت حينما ما بلغ خطاب الجسد أشده في أحد المشاهد فكانت بمثابة الجسر الذي عبر منه الرجل والمرأة جنبا إلى جنب وهما يلاحقان ظليهما في مكان ما..
الخيط أيضا، كان محددا للحظات السجن المفروضة على المرأة، وحينما فكّته تحررت وأطلقت العنان لروحها تلاحق أثر الضوء الذي يتخفى ويتبدى على إيقاع موسيقى خلقها عمر علولو فكانت ترجمة لصراعات أزلية بين "هو" وهي" واختزالا للحياة في هدوئها وثورتها، موسيقى كانت فارقة في العرض الأدائي وأحد محددات الجمالية فيه.
عن اللقاء بين منى بن الحاج زكري وإبراهيم جمعة..
منذ ثلاث سنوان، التقيا مصادفة للمرة الأولى والوحيدة في تونس، شرعا بعدها بكتابة الرسائل لبعضهما رغبة منهما في خلق تواصل مع الآخر، تواصل مبنيّ على الكلمات لكسر الضيق والبُعد الجغرافيّ.
في هذه الرسائل تحدث الثنائي عن الأنا بمختلف تفاصيلها، عن الاماكن، عن اللقاءات وعن الفراق، وبعد تراكمها لمدة سنة ونصف، وكلّ منهما في مدينته، قررا تحويل نتاج هذا التخاطب الذي تخطى حدود الزمان والمكان إلى عمل مسرحي.
فكرة العمل المسرحي صارت واقعا وامتدت البروفات على ستة أشهر في تونس وكانت الرسائل نقطة الانطلاق فيها، وهي التي أعادت كل منهما إلى الأنا خاصته.
"من أنا؟" السؤال الذي انطلقت منه عملية الكتابة والبروفات ليتطوّر النص جنباً إلى جنب مع العمل على الركح وتتشكل ملامح عرض يحاكي رحلة بحث مستمرة، بالمعنى الشخصي والمسرحي والجمالي.
من هي منى بن الحاج زكري؟
هي ممثلة، تكوّنت في مدرست الممثّل بإشراف الفاضل الجعايبي، وعلى مدى فترة التكوين، كتبت وارتجلت وخلقت قصصا كثيرة.
كانت تجربتها الأولى في المسرح المحترف، مع المخرجة سنية زرق عيونه في مسرحية "بيس"، حيث شاركت في الكتابة وعملت كمساعدة في الإخراج انطلاقا من اقتباس حر لمسرحية "عوز" لساره كاين، وكُتب النص بالدارجة التونسية.
كانت تلك المرة الأولى التي تلتحم فيها بلغتها الأصلية في عمل مسرحيّ، كتابة وتفكيرا ومساعدة في الاخراج، الامر الذي مكنها من استعادة ذلك الرابط المفقود مع هذه الأرض التي تعيش بها.
التجربة في عالم المسرح استمرت، إذ مثلت وشاركت في عرض "نافذة على…" لرجاء بن عمار، وعبر مسرحية "مدام م."
اكتشفت واقع مهنة الممثّل خلال تجربتي الثالثة في مسرحية مدام م. من إخراج آسية الجعايبي: الظروف المالية، الكواليس، جولات العروض والنقاشات مع الجمهور. في ذلك الوقت، طرح سؤالين: ماهو مفهوم هذه المهنة؟ وكيف لنا أن نعيش منها؟. العرض الرابع، "سيبني خال نشطح! لآسية الجعايبي، كان محاولة للإجابة عن كلّ هذه الأسئلة. لم أمثّل أيّ دور، ومثّلت كلّ حصص التدريبات نوعا من المواجهة مع الطريق التي سلكتها حتى أصل في النهاية إلى هذا العرض، ووجدتي تحت الأضواء، أسرد قطعة من المسار الذي أدى بي فوق هذه الخشبة.
خلال تربّص تحت إشراف كارول كارميرا، سنحت لي فرصة التساؤل عن مسألة الذاكرة؛ كفضاء للتخييل، وكمجال قابل للبناء. عمّا أبحث فوق خشبة الركح؟ استعادة روابط، ربط علاقات مع الذات ومع الآخرين لتطويع الواقع.
من هو ابراهيم جمعة؟
في داخله يحمل شغفا كثيرا للمسرح وعوالمه، هو الدراماتورج، والمخرج، والمدرّس خريج المعهد العالي للفنون المسرحية قسم الدراسات المسرحية 2013 حيث راكم حبه للفن الرابع.
بين ثنايا المسرح تقلب بين الدراماتورجيا والإخراج والسينوغرافيا في عديد الأعمال المسرحية المستقلة آخرها دراماتورج في العرض المسرحي دراما للمخرج أسامة غنم وهو اقتباس عن "غرب حقيقي" لسام شيبارد، ودراماتورج في العرض الأدائي الحركي معلّق للمخرج ميار ألكسان عامي 2018/2019 على التوالي وقدّم العرضان في تونس ثم في دمشق بالإضافة لإخراج وسينوغرافيا العرض المسرحي "ليست أنا" الذي قدّم في دمشق عام 2021.
وله رصيد من المشاركات في العديد من ورشات العمل المسرحية مع مختبر دمشق المسرحي، وورشات المسرح التفاعلي في دمشق مع "UNdp" كمتدرب ومدرّب.
وهو المدرّب في ورشة عمل مع مشروع أثر في ورشة عمل لغير المختصين بعنوان بحث تشاركي حول آليات التعبير المختلفة بين المسرح والرقص، في دمشق عام 2019.
كما أنه عضو مؤسس ومدرّب في مجموعة صِلة، التي تُعنى بالعمل الفني مع غير المختصين ومدرّس لمادة مبادئ الإخراج المسرحي في المعهد العالي للفنون المسرحية لعام 2020-2021.