المُضحِكْ في الكتاب الأحْلكْ!

 "المضحك" هو اسم صحيفة هزلية  تونسية صدرت في تونس سنة 1910 و ها نحن نحاول العودة للضحك بعد قرن كامل و بعد ان غابت الصحافة الهزلية تقريبا عن المشهد الصحفي والاعلامي التونسي وحلّت محلّها صحافة  الرداءة و القتامة و ثقافة الشتم و السباب .

 

لقد شكّل الكتاب الصادر عن دائرة الاعلام والتواصل برئاسة الجمهورية" المؤقتة"حدثا مزلزلا في نهاية الأسبوع  الماضي ولاجرم حسب رأيي أن يقع فتح الأرشيفات و الملفات السرية لإنارة الرأي العام حتى نتفادى ظاهرة الركوب على الموجة الثورية لمناضلي "الوهلة الأخيرة" و الساعة الخامسة و العشرين الذين حاولوا تلميع صورتهم البعض بالانخراط في المعارضة  لهثا وراء كسب بطولة الرفض و الأخر بالاندغام في المساندة باسم الدفاع عن "ثورة" لم يشارك فيها و لم يفهم كنهها، غير ان هذا المسعى الصادر عن الرئاسة كان يمكن أن يكون أنجع لو التزم بضوابط العدالة الانتقالية و بأخلاقيات التعامل الأرشيفي فالكتاب هو كتاب تحليلي لأرشيف منقوص و كان الأجدر نشر الوثائق  الأصلية  التي غابت في الكتاب و تركها  للتأويل الحرّ و لكن في هذا الكتاب "الأسود" غابت الوثائق و حضر التأويل و تحوّل من تأويل إلى تهليل لسير البعض وتشويه للآخر وفق الأجندة الحزبية للرئيس المرزوقي و حزبه و حلفائه .

لقد انقسم الرأي العام بين مادح و قادح  على إثر صدورالكتاب و لن أخوض شخصيا في أبعاده السياسية ولا الانتقامية و لا الانتخابية الآن فقد أردت أن آتي على بعض المقتطعات المضحكة منه.

1-    في " مخاض" صدور الكتاب الأسود …أو الولادة العسيرة عند قابلة تقليدية

منذ أن تشكلت الحكومة المؤقتة و نحن نسمع بإمكانية صدور"القائمة السوداء" للصحفيين وقد تم اختزال هذا التهديد في نعت "صحافة العار"  الذي أصبح يلازم كل وسيلة اعلام تنقد الحكومة أو الترويكا  و يبدو إن هذه القائمة "السوداء" موزعة على ثلاث مؤسسات هي أرشيف الرئاسة و أرشيف الداخلية  وأرشيف الوزارة الأولى و ها أن قرطاج كالعادة تبكّر بالخصوبة البعلية ( نسبة للإله بعل حمّون) و تحوّل القائمة السوداء إلى كتاب كامل في 354 صفحة.

 صدر الكتاب الأسود في شكل "سكوب" وتسريب حظي به صحافي من فئة "المراجعين" و هو صالح عطية صاحب قناةالمتوسط و الذي ارتبط اسمه  في السابق بتمجيد ليلى بن علي و منظومة الفساد  و الآن اصبح من دعاة "الثورية و تطهير الفساد" و حصوله على امتياز السبق  في حد ذاته هو أمر يسحب من المؤسسة الناشرة صفة الحياد و يسمح بنعتها ب"الزبونية"و المحاباة وهذا أمر لا يتلاءم مع مبادئ الرئيس المرزوقي اللّهم الا إنه على غير علم بذلك أو غيّر مبادئه وهذا أمر محزن في الحالتين .

لقد شدّدت الدائرة التي نشرت الكتاب على ان صدوره لم ينجز  "بغاية التشفي و الانتقام" بل لأخذ العبرة من النظام السابق و عدم تكرار الأخطاء  ولكن يبدو ان الاعتبار لم يحصل فهذا المولود الجديد لم يخضع لضوابط الولادة السليمة و لم يقع تعهده بالعناية اللازمة بل وُلد في ظروف عشوائية إذ من المفروض أن يقع إخراج الوثائق اولا ثم الاتفاق على تصنيفها فهل هي من صنف الأرشيف الجاري أو الوسيط او النهائي و الحال إنها من صنف الأرشيف الوسيط ( المنقوص) فدائرة الإعلام ذاتها تقر بإتلاف آلاف الوثائق في القصر في الشهر الذي تلى هروب بن علي .

لنبدأ بالتذكير بالقانون التونسي ( الذي مازال ساريا إلى حد الآن ) :

ينصّ قانون الأرشيف التونسي عدد 95 المؤرخ في أوت 1988 على إن  " الأرشيف يتبع ملك الدولة العام" و"لا يمكن الاطلاع على الارشيف العام إلا بعد انقضاء مدة 30 سنة وبالنسبة للوثائق التي تتضمن معلومات تمسّ بالحياة الخاصة أو تتعلق بسلامة الوطن" طبعا هذه المعلومات  الواردة في الكتاب الأسود تمس من الحياة الخاصة للأشخاص ووجب احترام القانون أوتنقيحه قبل نشرها…و أترك المجال هنا للمتضررين كي  يدافعوا عن أنفسهم بما يرونه صالحا .

ما يهمني كباحث في التاريخ و مطلع على التراتيب الأرشيفية هو ما يلي Haut du formulaire

Bas du formulaire

 

إلى أي حدّ تم توخّي الأمانة في تأويل الوثائق و التأويل هو من عمل المؤرخ أساسا فهل يوجد في فريق العمل زمرة من مؤرخين محترفين إن كان الأمر بالإيجاب فما ضرّهم لو نشروا الوثائق قبل التأويل حتى نحكم على نجاعتهم في التحليل و لنضرب لذلك مثلا وهو مضحك حقا في ص 88 . طلب أحد مديري الصحف  تمكينه "من قطعة أرض بالضاحية الشمالية قريبة من البحر و بسعر منخفض" فعلّق بن علي على الطلب " بالكتابة حرفيا جنة وفيها بريكاجي" هذه معلومة هامة تؤكد تحلحل مؤسسة الرئاسة و تدني مستوى وأخلاقيات التعامل في عهد بن علي و لكن من الأجدى إرفاق التحليل بصورة من الوثيقة الأصلية حتى نتأكد من صحة التعليق و الأهم من هذا هل صدرت عن المعني بالأمر ( مدير الصحيفة) طلبية مثل هذه وهل توجد وثيقة في الغرض أم هو مجرد تقرير من" وسيط " .هذا امر هام في منهجية  تحقيق الوثائق وفهم سياقها . فلو أحذنا بما ورد في تقارير البوليس الفرنسي زمن الاستعمار لتبيّن لنا – إن كنا سذّجا طبعا – إن كل رموز الحركة الوطنية كانوا عملاء لفرنسا …و لذا كان من الضروري اخضاع الوثائق  لفريق من المحققين و الأرشيفيين والمؤرخين.

لقد أسرّ لي المرحوم عبد الفتاح عمر في حديث جانبي في إحدى الندوات  العلمية قبل وفاته الأسيفة بأنه لو تم نشر كل الوثائق و التقارير الموجودة فإن أكثر من نصف الساحة السياسية في تونس سينالها التجريح و هذا أمر يتطلب الحيطة و أنا شخصيا كمؤرخ أطالب بنشر أرشيف البوليس السياسي حال صدور قانون العدالة الانتقالية ودون غربلة و إن وقع نشره قبيل الانتخابات فسيكون الأمر عبارة عن تزييف مباشر لنتائجها .

لا أعتقد شخصيا انه تم كشف كل الحقائق في هذا الكتاب الأسود ولا أتصور إنه تم التعامل مع كل الاسماء بنفس الطريقة فما الّذي يجعلنا نتأكّد من أنّه لم تقع غربلة لبعض الأسماء الموالية للمؤتمر وللترويكا عموما و فيهم من تألق قبيل سقوط بن علي بتمجيد زوجته و صهره صخرالماطري و هذا أمر ثابت لا يحتاج إلى صناديق ولا إلى كتب "سوداء" .

اختيار عنوان "الكتاب الأسود " يذكرني شخصيا بالكتب السوداء التي صدرت للتأريخ لجرائم الرأسمالية و العنصرية و الصهيونية …و لا أعتقد ان المناخ الحالي في تونس  يسمح بنشر مثل هذه الكتب "الحالكة"قبل انجاز الدستور و تأسيس قانون العدالة الانتقالية و الأجدى نشر كتب بيضاء في هذه الفترة القاتمة فقد عودتنا مؤسسة الرئاسة على جمع الفرقاء من حامد القروي إلى غلاة السلفية و قياديي روابط حماية الثورة  في القصر فكان عليها أيضا أن تتوخى نفس المرونة مع الصحفيين و الاعلاميين.

…2- ألقاب في غير موضعها

في عرف "الإسامة " نذكر الأموات بدون ألقاب والأحياء نعاملهم بالتساوي وهذا يغيب في الكتاب بل يتحول إلى خيار انتقائي تفضيلي نال الحظوة الأولى فيه الرئيس المؤقت السيد المنصف المرزوقي فهو الوحيد الذي نال صفة الدكتور في الفهرس ( صفحتي 6 و7) و الحال إن الكتاب يعج بأسماء الأطباء ( منهم الواشي و منهم الموشى به ) و لكن لا أحد منهم ينال صفة " الدكتور" والأرجح في هذه الحالة هوالتعامل مع الجميع بنفس الطريقة إما  يذكر الاسم كما ورد في الوثائق الأصلية او يذكرالسيد المرزوقي بصفته الحالية رئيس الجمهورية التونسية…المؤقت.

الشخص الثاني المحظوظ في الفهرس هو  محمد عبو ( ص 6) الذي تسند إليه صفة"الأستاذ" و المقصود بها هنا هو أستاذ المحاماة  أما مختار الطريفي و راضية النصرواي و غيرهما من المحامين فإنهم لم ينالوا صفة الأستاذ ،هكذا أراد المُفهرس.

وفي الفهرس أيضا تراتبية عجيبة  فهو يبكّر في الملف الثالث عشر (بداية من ص 77)بالدكتور المرزوقي ثم حركة النهضة و قيادتها ثم راشد الغنوشي و المنطق هو التعامل مع الحركات و الأحزاب ثم الشخصيات و لكن الترتيب لم يخضع على ما يبدو لهذا المنطق بل لواقع الترويكا الحالية رئيس مؤقت و حركة حاكمة  .

و في متن الكتاب تواصل مثل هذا الانحياز شكلا و مضمونا  فتحول راشد الغنوشي في ص 299 إلى الأستاذ وهو فعلا أستاذ تعليم ثانوي و نال الصفة في عنوان الفصل  تماما مثل محمد عبو  في حين حرم أغلب الأساتذة ( سواء المدرسين أو المحامين) من تلك الصفة.

ونالت تلك الصفة راضية النصرواي ص 341 و لكن لم يخصّص لنضالها و معاناتها من أقلام المرتزقة وتشويهاتهم  إلا خمسة أسطر في حين خصّص للمنصف المرزوقي 10 صفحات و محمد عبو 3 صفحات أما المرحوم محمد الشرفي فقد أفرد بأربعة أسطر ونصف و كمال الجندوبي كان محظوظا بنصف سطر زائد ( أي خمسة).

من المؤكد ان سيولا لتقارير لا تستوي  في الكم  و التواتر حول الشخصيات المذكورة غير ان الألقاب و طريقة الترتيب تظل مريبة و غريبة إلى حد الاضحاك.

3–من عبد الباري عطوان إلى فوزي  بن قمرة : طرائف و ملح …في الكتاب الأسود

– تُذكر آمنة بن عرب في  قائمة الأشخاص الذين  يقع  تنظيم " دورات لفائدتهم  لتدريبهم على تقنيات الرد عبر الفضائيات"و تنال  الترتيب رقم 5  ( ص 48)ضمن الجامعيات ويقع ذكرها في الترتيب رقم 29 ص 49 ضمن قائمة مجلس النواب  و يتحول اسمها إلى آمنة بن"عربية" و الحال ان الأمر يتعلق بنفس الشخص.

– في خلط الرياضة و السياسة: وهو أمر تجاوزناه بجلاء بعد الثورة بدليل تجديد الثقة في السيد طارق ذياب في حكومتين متتاليتين وقد بيّن الكتاب الأسود ان عدة رياضيين  كتبوا مقالات تأييد لمنظومة بنعلي ( وهو أمر هام يدل على إن رياضيينا من أصحاب القلم) على غرار الحارس العملاق الصادق ساسي و كمال الشبلي و تميم الحزامي و هدّاف القرن عزالدين شقرون و الهادي البياري و مراد محجوب وحمدة بن دولات و مراد الدعمي و  العروسي المنصري وسيد العياري و زياد الجزيري وعلي السلمي و جمال الإمام وجمال بركات …ويبدو ان الوحيد تقريبا الذي نجا من هذه التهمة هو المرحوم محمد علي عقيد الذي توفاه الأجل قبل قدوم بن علي إلى القصر .

– الفن و السياسة : نفس الأمر نال من فنانين مثل المنصف السويسي و منى نور الدين ووجيهة الجندوبي و حسين العفريت و المرحوم الصادق ثريا و جمال الشابي و عبدالعزيز المحرزي و  المنجي العوني و زياد غرسة و فوزي بن قمرة…. الذي ورد اسمه مع مشهورين كبار من أمثال عبد الباري عطوان و الدكتور الهاشمي الحمدي  و الذين اجتمعوا كلهم في نفس الكتاب بصفة "ضاربي" الدف لبن علي .

– السياقة في حالة سكر : هي تهمة لتشويه المعارض و الاعلامي الطاهر بنحسين ( ص316) تم استعمالها ضده من قبل نظام بن علي و أوردها الكتاب الأسود ليبين مدى معاناة الرجل تماما مثله مثل العفيف الأخضر …لكن تردف فيما بعد بمقتطفات فيها تلميح للتواطؤ مع نظام بن علي ووكالته المشهورة للاتصال  و بوجود نوع من الوفاق بين الطاهر بن حسين  وبين النظام بوساطة من برهان بسيس و يقول بن علي  في الطاهر بن حسين قوله الفصل :" لايرجى خيرا من الطاهر بن حسين و لا قيمة لقناته" …و أعتقد ان هذا الكلام سيقاومه سي الطاهر بكل ما أوتي من "معدنوس" .

هذه دفعة على الحساب مما جاء في الكتاب أردت من خلالها الإتيان على المضحك لأننا في حاجة لذلك في هذا الفصل الممتد بين أيلول الأسود و كانون الأول…أ وديسمبر الأصم.

 

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مؤرخ جامعي ومحلّل سياسي

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.