الموسيقى الكلاسيكية تضيئ ليالي القلعة الكبرى

 محمد علي الصغير –

أُسدِل الستار مساء الأحد 28 أفريل 2019، على فعاليات الدورة الثالثة لليالي الموسيقى الكلاسيكية بالقلعة الكبرى. دورة أوفت، حسب الملاحظين، بكل وعودها، تنظيميا وجماهيريا وخصوصا فنيا.

الحدث كان استثنائيا بكل المقاييس اذ على امتداد ثلاثة أيام، عاشت مدينة القلعة الكبرى على ايقاع الموسيقى الكلاسيكسية الهادئة والهادفة. منظمو هذا الحدث الفني الراقي وفي مقدمتهم المتميز سفيان الفقيه فرج، رئيس جمعية دروب للثقافة والتنمية، الجهة المبادِرة ببعث هذه التظاهرة، استحقوا العلامة الكاملة بالنظر الى قيمة العروض التي تمت برمجتها والأسماء التي تمت دعوتها لتأمين هذه التظاهرة التي تميزت بحضور عدد هام من الجماهير بما في ذلك سياح من جنسيات اوروبية. 

ليال حالمة

أن ينجح عرض فني ما في شد انتباه الجمهور وتركيزه على امتداد ساعتين فهذا أمر يصعب تحقيقه الا اذا كان الاداء من الرفعة والمتعة والرقي بمكان. عازف الكمان الايطالي البرتو ميراري وعازف البيانو الفنان المتميز بسام مقني، الذان أمنا سهر الافتتاح بدار الثقافة بالقلعة الكبرى، نجحا في كسب هذا الرهان.

العازفان الذان قدما معزوفات لبتهوفن  وكامي سان سايس وبابلو دي سارازات جوهاشيم براهامس وفيتورو مونتي ومحمد مقني استطاعا بفضل انسجامهما وتناسق الآداء، أن يسافرا بالحاضرين الى عالم من الاحلام والخيال وان يذهبا بعيدا بأذهان المشاهدين في غياهب عالم الهدوء السرمدي والسكينة اللامتناهية.

جمال الموسيقى ورفعة الآداء تجسّما بشكل مختلف كليا في اليوم الثاني مع الصوت الاوبرالي الراقي والرفيع للفنانة الشابة والرقيقة ليلية بن شيخة. المُلَقبة بالماجدة الصغيرة او الصوت الحلم،  ليليا بن شيخة، سليلة العائلة الفنية وخريجة ستار اكاديمي، حازت على اعجاب الجمهور الغفير والمتميز الذي ابدى استعدادا للاصغاء وقدرة على التفاعل مع هذا النوع الخاص جدا من الموسيقى. ولعل مرور المبدعة بن شيخة عبر مسرح دار الثقافة بالقلعة الكبرى سابقا خلال عرض تونس 88 الذي نظمته جمعية دروب يوم 8 فيفري 2018 بالتعاون مع جمعية محمد الزرقاطي للمسرح وفنون الفرجة ساعدها في التواصل مع جمهورها بكل عفوية وتلقائية.

صاحبة الصوت القوي والمتدفق بكل سلاسة وانسيابية، ليليا بن شيخة التي قدمت لوحة فنية راقصة،  ابدت انسجاما تاما مع الرباعي Quartuor Mezzo الذي أمن هذا الحفل. الرباعي الشاب مراد الفريتي وياسين قطاط وأمين القاسمي وأمين صميدة قدّم معزوفات لموزار وتشايكوفسكي وروسيني وبراهامس باعتماد آلتيْ الكمان والكونترباص.

 

لحظات الابداع والمتعة والجمال والاحلام تواصلت مع الحفل الختامي الذي امنته الاركاستر السمفوني "Les Solistes" بقيادة أشرف بالطيبي والعازفين ايلاف هبة مطار على آلة البيانو وهيكل سيالة على آلة العود.

الجمهور استمتع وصفق طويلا لآداء الراقي لمقطوعات جميلة لموزار وباخ وادوارد ڤرياڤ ونصير شما وغيرها من المعزوفات الجميلة والهادئة التي استاطعت، أن تؤكد من خلال التفاعل التام والمُلفِت للجمهور، أن لهذا النمط الموسيقي عشاق ومتابعون في القلعة الكبرى وأن المراهنة على هذا النمط من الموسيقى ليس من باب المغامرة محفوفة المخاطر.

القطع مع النمطية

لم يخف منظموا هذه التظاهرة الفنية، منذ تأسيسها، الهدف الرئيسي والتحدي الذي تم رفعه والمتمثل أساسا في "استقطاب جمهور  يرغب في القطع مع النمطية والمساهمة بذلك  في إرساء واقع ثقافي مختلف يجد فيه المتلقي ما يتوق إليه"، حسب قول المشرف الأول على هذه التظاهرة سفيان الفقيه فرج. رئيس جمعية دروب صرح حقائق اون لاين على هامش هذه التظاهرة أن "لديه طمح لا محدود في ترسيخ ثقافة الاستماع الى نوع جديد من الموسيقى والى تكريس ديناميكية ثقافية في المدينة ترقى بالمستوى الفكري والثقافي وبالذوق الفني لابناء الجهة".

جمعية دروب للثقافة والتنمية الزاخرة بالكفاءات والطاقات الشابة والطموحة على غرار الدكتور عاطف بن عامر  ترنو كذلك من خلال تنظيم هذا الحدث الفني البارز الذي لاقى دعما كبيرا من قبل سلطة الاشراف الى خلق حراك ثقافي وفني مختلف الى كسر " النظرة النمطية للموسيقى الكلاسيكية التي بقيت حكرا على طبقة معينة و فئة ضيقة"٠ خلق تقاليد فنية جديدة ومهرجان يضاهي في حجمه وفي مستواه وفي شعبيته مهرجان الجم الدولي للموسيقى السمفوونية يبقى من بين الاهداف الرئيسية لهذه التظاهرة الناشئة التي بدأ عودها يشتد مع مرور الزمن ومع اصرار القائمين عليها على الترويج لها وتعميم صداها لا داخل المدينة فحسب بل كذلك الى المناطق المجاورة.

دمقرطة الموسيقى الكلاسيكية

بادرة مهمة قام بها الساهرون على ليالي الموسيقى الكلاسيكية بالقلعة الكبرى تمثلت في برمجة عرضين فنيين على هامش هذه التظاهرة، لفائدة تلاميذ المدرسة الاعدادية بالكندار ونادي الشباب الريفي بالشياب. وقد أمّن هذين العرضين عازفون من طلبة المعهد العالي للموسيقى تحت اشراف الاستاذ الناصر العفريت. 

الهدف من وراء هذا اللقاء بين طلبة معهد الموسيقى وعدد من الاطفال في هذه المناطق الريفية التي تفتقر الى الفضاءات والمعدات اللازمة لممارسة الموسيقى هو "دمقرطة الموسيقى الكلاسيكية و تقريبها من مختلف الشرائح والفئات" وبعث بريق من الأمل وزرع الحلم لدى الأطفال في القدرة على التواصل مع هذا النمط الموسيقي الرفيع. 

ليال ثلاث من المتعة والجمال والموسيقى الهادئة والراقية ميزت الحراك الثقافي في مدينة القلعة الكبرى. هذه المدينة التي شهدت في السنوات الأخيرة ميلاد العديد من الجمعيات والفضاءات ساهمت في خلق زخم فني كبير تمثل في تنوّع في التظاهرات وتكريس لمعظم الفنون من مسرح وموسيقى وفن تشكيلي. وحدها السينما بقيت في هذه الربوع تتحسس لها عن موطأ قدم رغم بعض المحاولات الجادة كايام كورتينا لسينما الطفل او بعض التظاهرات العابرة التي تنظمها دار الشباب او دار الثقافة بالجهة والتي تبقى دائما في حاجة الى مزيد من الدراسة والتطوير. ربما نشهد يوما بعث مهرجان متخصص يليق بهذ المدينة الحالمة التي أبدى سكانها عشقا لا محدود للفعل الثقافي.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.