في اللحظة التي ساد فيها الاعتقاد بأنّ تونس ما بعد هجمات "باردو" و"سوسة" قد فقدت البوصلة نهائيا، استعاد "المخيال الجمعي التونسي" دوره الرّيادي في المبادرة والقيادة والاستشراف…
فبعد أن نجح بملاحظة "مشرف جدا" في اجتياز اختبار 14/ جانفى/ 2011 المباغت والعسير بأقل التكاليف الممكنة، وجنّب البلاد في صائفة 2013 من حرب أهلية شبه مؤكدة بين أنصار"فرسان الطواحين" من خلال استنباط آلية "الحوار الوطني" .. هاهو اليوم بنفس الروح وسعة الخيال يعيد الكرة باستحداثه لأشكال غير مألوفة في مواجهة الإرهاب، عنوانها الحقيقى "الطاقة الجمعية الايجابية الكامنة" لشعب صغير/كبير…
ففي مراوحة عجيبة غريبة بين إعادة انجاز خندق "سليمان الفارسي" بصيغ ومواصفات القرن الحادي والعشرين العسكرية والإستراتيجية، والإصرار على الاستمرار في الرقص حتى مطلع الفجر على ركح "مسرح قرطاج" تحت الأنظار الثاقبة للشخصية الأسطورية "ديدون"، تستمر التجربة التونسية في صنع ربيعها الخاص .. كل ذلك يحدث في ظل إعلان حالة الطوارئ العامة في البلاد…
حالة الطوارئ كانت دوما رديفا لقرع طبول الحرب، تتوقف فيها عقارب الساعة المجتمعية عن العمل بشكل منتظم، وتتبخّر آخر جٌزيئات ذرّات أكسيجين الحريات إلى حين إشعار آخر…
بمفردات المعجم التونسي، حالة الطوارئ تعنى انتصارا لغريزة البقاء، إقبالا منقطع النظير على فضاءات التسوّق والمهرجانات والاصطياف، وبحث متواصل لمقاربات تونسية/تونسية في مقارعة الإرهاب دون المساس الجوهري بمنسوب الحريات الفردية والعامة…
– حفر خندق "سلمان التونسي" هذه المرة… –
لم تنتظر تونس طويلا للاستفادة من صفتها الجديدة "كشريك غير عضو في حلف الناتو" بل سارعت إلى إرساء منظومة دفاعية حدودية يتداخل فيها الجغرافي بالبشرى بالتقني بشكل متناغم، قوامها قطبان :
– أولها الشروع بحفر خندق مُحصّن بستائر ترابية في عمق التراب التونسي على امتداد 220 كلم من الحدود التونسية الليبية سيتم تزويده بشبكة مراقبة الكترونية متطورة…
– وثانيها تجديد الحرص الشديد على إبقاء المعابر الحدودية الرسمية للبلدين مفتوحة في الاتجاهين والعمل على تطويرها وعصرتنها بالكامل…
بهذا الأفق الاستراتيجي المتوازن تنحو المقاربة الأمنية التونسية الشاملة إلى التأكيد على أن أي ترتيبة دفاعية ناجعة وفاعلة في التعاطي مع حدودها الجنوبية عليها أن تحافظ أولا وأخيرا على انسيابية العلاقات السوسيو-تاريخية للشعبين التونسي والليبي، وان "الخندق" ليس سوى طوق وقائي مٌوجّه حصرا لعرقلة تحرك مقاولات التهريب ومن خلفهم صبيانهم من فلول الارهابين لا غير …
ففي "سجل الولادات" تٌعتبر شبكات التهريب الكبرى الأمّ الحاضنة والمرضعة للإرهاب، وان أي نجاح في قطع "الحبل السرّي" بينهما يمرّ حتما عبر بوابة محاربة التهريب بشتى الأشكال والوسائل…
فان كانت فكرة حفر خندق تبدو بدائية عند البعض ومحلّ تندّر لدى البعض الآخر فإنها تظل "تكتيك عسكري" تمّ استخدامه على مرّ العصور من "حروب فارس القديمة" إلى الحرب العالمية الأولى بالخصوص، وتدرّس اليوم بأكبر المدارس الحربية في العالم…
كما أنّ الفكرة في حدّ ذاتها تستبطن رمزية عالية ومفزعة لدى المتربصين بتونس من الداخل والخارج، فالخندق يعنى ضرورة الحفرة،القاع، السقوط المدوي والحتمي لهؤلاء وهى أيضا الموروث الاسلامى في أنبل استخداماته… وما حملات التشكيك والاستنكار الممنهجة داخليا وخارجيا إلا دليلا قويا على السطوة النفسية الرهيبة للبعد الرمزي للخندق…
– الإصرار على الاحتفال والرقص إلى مطلع الفجر… –
خلافا لما كان متوقعا أضاءت سماء ليالي تونس الحالمة مباشرة بعد هجمات "باردو" و"سوسة" سلسلة من الاحتفالات الفنية والثقافية في تحدّ لمبشري ثقافة الموت..فعلى إيقاع "الفلامنكو" و"التام تام" الافريقى والمزمار الشرقي انطلقت فعاليات "مهرجان قرطاج الدولي" في دورته 52 بحضور جماهيري واعد وبإسناد من عدد من المستشهرين Sponsors من القطاعين العام والخاص، وكأن بلسان حالها يٌردّد: "محاولاتكم اليائسة لاغتيال الفرح تٌحفزنا أكثر على حمل شموع الفرحة قبل الأكفان إلى مطلع الفجر…".
فان كانت "مداخل الإرهاب" في تونس متعددة فان "طائر الفينيق" المٌعشّش داخل كلّ تونسي حرّ كفيلا بدحره والانتصار عليه…
كما أن الداعين ليلا نهارا لعقد "مؤتمر وطني لمحاربة الإرهاب" لاستعراض ما جادت به قريحة "الشيخ غوغل" من تشخيص واستشراف، تحيلهم "المقاربة الجمعية لمقارعة الإرهاب" على الإجابة التالية: "صحّ النوم سادتي، كفاكم مراهقة وتعملق، المؤتمر فى حالة انعقاد دائم بإخراج كورغرافي جمعي فى منتهى السلاسة ومخرجاته الايجابية بدا يتلمسها الجميع…".
والقائل بخلاف ذلك فهو بالتأكيد: متوهّم، موهوم وواهم…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*جامعي متخصص فى القانون الدولي والتفكير الاستراتيجي