المصالحة مع الشعب أوّلا

نعيش هذه الأيام على وقع تواتر الحديث عن عودة وجوه من نظام بن على الساحة الاعلامية ورغبتهم في المصالحة مع الدولة التونسية والعودة للحياة الطبيعية وكأن شيئا لم يكن.

يتعلق الامر هنا تحديدا بصهر بن علي سليم شيبوب اللذي خلّف ظهوره على قناة التاسعة العديد من ردود الافعال والتساؤلات والتأويلات. 

ولا يقتصر الأمر فقط على شيبوب المعروف بسيطرته المطلقة على الساحة الرياضية في عهد المخلوع  وإنما أيضا على سيئ الذِّكر عماد الطرابلسي الصهر المدلّل الرئيس السابق والموجود حاليا في السجن والذي عبًّر على ما يبدو عن استعداده للمصالحة. الشيء نفسه تقريبا مع بلحسن الطرابلسي، أحد اللصوص الذين كوّنوا ثروات طائلة في ظرف وجيز والموجود حاليا في  كندا والذي أعرب أيضا عن رغبته في تسوية وضعيته والعودة الى تونس.

موضوع المصالحة وخصوصا مع رموز النظام السابق وتحديدا الوجوه البارزة كالمنتمين الى عائلة بن علي وعائلة زوجته والذين استفادوا بشكل مباشر من السلطة ونهبوا وسرقوا خيرات بلادنا وهرّبوا أموالا طائلة الى بنوك أجنبية لا يجب أن يكون مجرّد موضوع قانوني فحسب وإنما يجب أن يكون الجانب الأخلاقي طاغيا على حلِّ هذه المسألة الشائكة.

المصالحة مع هذه الفئة من اللّصوص الذين وضعوا حجر الأساس للدولة المافيوزية التي أصبحت اليوم على وشك نهاية التشكُّل، ليست مجرد مصالحة مع الدولة التونسية فحسب وإنما يجب أن تكون أولا وقبل كل شيء مع الشعب التونسي بأكمله الذي تضرر وبدرجات متفاوتة من هذه العصابة الفاسدة والمفسدة.

ما نلمسه اليوم هو وجود محاولات يائسة لإعادة إدماج هؤلاء المذنبين في الحياة الاجتماعية بطريقة سمجة ومبتذلة. وللأسف الشديد ما تقوم به بعض الوسائل الإعلامية – ولا نظنها عن غير قصد – من محاولات لتبييض هذه الرموز التي اقترن إسمها بالفساد والرشوة والمحسوبية والجبروت واستغلال النفوذ في جميع المجالات، يعدُّ ضربا من ضروب الاعتداء على كرامة التونسيين ومحاولة للاستنقاص من فطنتهم واستبلاههم بطريقة مفضوحة.

بعض هذه الوسائل تحاول جاهدة، أن تقدِّم لنا هذا الرَّهط من الانتهازيين ومصاصي ثروات الشعب، من خلال فسح المجال لهم لترويج أكاذيبهم ورواياتهم المزيفة للحقائق على أنَّهم "ضحايا" إغراءات السلطة وبهرجها وأنَّ جُرمهم لا يعدو أن يكون مجرَّد خطأ يمكن تلافيه بمجرًّد المصالحة مع الهيئات الوطنيّة، ولم يتبقًّ لنا إلا أن نتقدَّم لهم بشديد اعتذارنا على طردهم من السُّلطة وحرمان الشعب من خدماتهم الجليلة هم وزعيمهم المخلوع الذي ينتظر على ما يبدو دوره ليخرج لنا في ثوب الضحيّة والمخلص لوطنه ولشعبه لنكتشف بعد ذلك أنه كان أحرى بالشعب التونسي أن يلقي نفسه في البحر على أن يخطئ في حق زعيم فذ لم ينجب التاريخ شبيها له!!!.

صحيح انه آلية المصالحة تعتمد على المحاسبة بدرجة أولى، ونحن لا نشك قيد أنملة في حرص الهياكل العمومية المختصَّة في الاضطلاع بدورها على أكمل وجه رغم الضغوطات والإكراهات، بَيْد أنَّ ما نخشاه فعلا -وهذا مربط الفرس- أن يلقى هذا الملفّ مصير العديد من الملفّات الأخرى التي إِمّا أن تُغلَق بمجرد فتحها أو أنّها تبقى مٌجمَّدة في أروقة القضاء أو حبيسة مكاتب لجان التحقيق لسنوات عديدة ويلفِّها النسيان كحال ملفًّات شهداء الثورة وجرحاها وأحداث الرّش بسليانة والاعتداءات على مقرّ الاتحاد واغتيال الزعيمين شكري بلعيد محمّد البراهمي و نَخال أنَّ معظمها أُغلِق من قبل أن يُفتَحَ أساسا. 

ومن نافلة القول، وحتى يبقى هذا الموضوع حيًّا في ضمائرنا يجب تشريك الشعب التونسي في حلِّه بصفة مباشرة لأنَّه كما سبق وذكرنا ليس ملفا قانونيا فحسب. فإجراء استفتاء شعبي يشارك فيه كل التونسيين وليس المتضررين بصفة مباشرة فقط من اعتداءات هاته العصابة، يبقى حلا من الحلول الكفيلة بإرضاء كل الأطراف ومعرفة إن كان التونسيون قابلين بالمصالحة مع زمرة بن علي أم أنهم يرفضون عودتهم، هذا طبعا دون التخلي عن الحق في الملاحقات القضائية التي تبقى أمرا لا جدال ولا نقاش فيها.     

من غير الجائز اليوم، ان يظلًّ ملفّ بحجم ملفِّ المصالحة، حكرا على بعض الأطراف الفاعلة في السلطة ويتحوِّل الى وسيلة ابتزاز وترهيب لهؤلاء المذنبين الذين أبدوا رغبة ملحّة واستعدادا لا متناه لدفع الغالي حتًّى يعودوا الى حياتهم الطبيعيّة ويندمجون من جديد في المجتمع التونسي. ولا نخال أن التونسيين بغافلين عما حدث مع العديد من رجال الأعمال المتعلّقة بهم قضايا فساد كيف استسلموا للمقايضات والمساومات من أطراف كانت ولا يزال بعضها في السلطة وأحلّت لنفسها ابتزازهم وترهيبهم. ولا يجب أن يبقى هذا الملف أيضا حكرا على مجلس نواب الشعب الذين أثبتوا أنهم أبعد ما يكون عن الحرص على مصلحة ناخبيهم بعد ما تمادوا في صبيانياتهم وحرصهم على مصالحهم الشخصية والحزبية غير عابئين بانتظارات الناس والآمال المعلّقة عليهم. المصالحة الحقيقية يجب أن تكون مع الشعب أولا وأخيرا.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.