“المسرح الصغير” لكريم الخرشوفي.. نور وسط العتمة

 يسرى الشيخاوي- 

سنة عشرة وألفين، ركب قارب الموت وهو يمني النفس بجنة موعودة على الصفة الاخرى من المتوسط، لكن القدر أبى إلا أن يقطع عليه الطريق حينما أرعدت وأبرقت وباحت الأمواج بغضبها. 

بعد أيام من التحضيرات وفي اليوم الموعود، تلاشى حلم " الحرقة"، وعاد كريم الخرشوفي من حيث انطلق، عاد إلى حي "أسود" في طريق بني خداش مدنين، حي تتجلى فيه كل الظواهر الاجتماعية.

لكن سواد الحي لم يمنعه من الاستمرار في الحلمي لينهي المرحلة الثانوية ويجتاز امتحان الباكالوريا ويلتحق بالمعهد العالي للفن المسرح حيث أينعت احلامه وأزهرت ولم ينس أبناء حيه الذي قضوا في البحر وهم يلاحقون البدائل، فنانون ضاقت بهم السبل فارتموا في أحضان "الحرقة".

خمس سنوات قضاها في المعهد العالي للفن المسرحي تحصل فيها على الإجازة والماجستير، وذاكرته تحمل إليه في كل مرة تفاصيل عن صعوبة الوصول إلى دار الثقافة التي تبعد قرابة ثلاثة كيلومتر عن حيه، وفق حديثه مع حقائق أون لاين.

ذكريات كثيرة تسكنه وتلفت نظره في كل مرة إلى غياب فضاء ثقافي في حيّه، ذكريات رسم منها معالم فضائه الثقافي "المسرح الصغير" الذي رأى النور في في فيفري من سنة سبعة عشر وألفين. 

منذ عودته إلى الأرض التي علمته معنى الحلم، رفع شعار اللامركزية الثقافية وزاده الكثير من الإصرار والشغف، وكان أن بعث في أكتوبر من سنة ستة عشر وألفين شركة البحث للنتاج الفني التي تولّد عنها الفضاء الثقافي.

الأمر كان أشبه بالمجازفة في حي أسود تتجاذبه الخصاصة والانحراف ويعج بالمتشدّدين حينها، ولكنه لم يتقهقر ولم يتردّد وتشبث بحلمه رغم كل الصعوبات وخلق الفضاء أكثر من مهرجان.

وعبر مهرجان مسرح الاحياء الذي يقوم على تحويل الفضاءات العامة إلى فضاءات للعرض وعلى ملئ الفراغ بالفن وقطع الطريق على أشياء أخرى لمكن أن تجد لها مكانا في هذا الفراغ، حسب حديث الخرشوفي الذي راهن على الثقافة في حيه وكسب الرهان.

وهو يواصل الحديث عن هذه التجربة، تتجلى سعادته باستقطاب عديد الشباب إلى الفضاء، صار بعضهم أساتذه فيه وبعض الآخر يدرس في المعهد العالي للفن المسرحي ومعهد الفنون الجميلة.

ورغم التهديدات التي تعرّض لها الفضاء وصاحبه، لم يخفت بريقه واتسمر بنفس الحماسة، إذ يقول كريم الخرشوفي ان بعض المتشددين هددوا بتفجير الفضاء حينما استضاف عرض "زوفري" للفنان رشدي بلقاسمي، مشيرا إلى ان التهديد لم يخفهم ولم يثنهم عن تقديم العرض وأن أبناء الحي أمنوه من بدايته إلى نهايته.

وفي حديثه عن أنشطة الفضاء، لم تسقط ذاكرته زيارة الراحلة زينب فرحات له ومتابعتها عن كثب لتكوين مجموعة من الاطفال والشباب ومن هناك كانت فكرة مسرحية "144 قطرة" التي تعالج ظاهرة الحرقة، الظاهرة التي تعدّ فارقة في تفاصيل حياة الخرشوفي.

ومن بين الممثلين في "144 قطرة"، ممثل خاض تجربة " الحرقة" أكثر من مرة وصفعته الحياة مرات ووجد في المسرح ملاذا وميناء سلام شأن شأن الكثيرين من أبناء الحي اللذين غير المسرح من سلوكياتهم، وصاروا أكثر انفتاحا وقدرة على التعبير عن ذواتهم.

وفلسفة الفضاء تستند إلى القطع مع المركزية الثقافية وخلق ديناميكية اقتصادية في الحي الشعبي، وتحويل الفضاءات العامة إلى فضاء للعروض وانتشال الأطفال والشباب من براثن الآفات، وفيه نواد مختلفة تراوح بين المسرح والرقص والسينما.

ورغم غياب الامكانيات المادية واللوجستية، لم يرم كريم الخرشوفي ومن شاركوه الحلم المنديل وواصلوا المقاومة بالفن، واليوم يقتحم "المسرح الصغير" الزنزانات من خلال تجربة في سجن حربوب، كوميديا سوداء تستمد اسمها من أكلة شعبية هي "الرفسة" ليتلاعب بالكلمات ويجعلها "rêve ça".

وهذا العمل المسرحي عرض في تظاهرة "تجليات مودع"، ولعل اللافت في هذه التجربة أن اثنين من المودعين في سجن حربوب صاروا يعملون في فضاء المسرح الصغير بأداء مبهر.

وبإمكانياته الذاتية، يسعى محدّثنا إلى إعادة التجربة مرة أخرى ليفسح المجال أمام طاقات ابداعية لم تجد فرصتها لتتفجّر، وفي الأثناء يواصل نثر النور وسط العتمة عبر "المسرح الصغير" الكبير بإنتاجاته وأنشطته. 

وللفضاء انتجات للأطفال والكهول، من بينها "طائر السنونو" و"الغول وأنف المهرج" و"الدب الطيب"، و"رجع الصدى" و"الشياح" و"عرس الحوايا"، وهي عروض تستلهم جكاياتها من واقع الجهة بأبعادها المختلفة، وفيها يخلق الفضاء منهجا آخر للفعل المسرحي يقوم على بساطة الطرح وعمق الوقع.

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.