المسؤولية الإعلامية المعكوسة

ركّز الإعلام التونسي والعمومي منه بالخصوص كثيرا طيلة سنوات ما بعد الثورة على ظاهرة الهجرة السريّة وأبرز مخاطرها على مرحلة الانتقال الديمقر اطي، ولاقى "حرقان" أكثر من 5400 مواطن من أصيلي جرجيس إلى إيطاليا في الأيام الأولى للثورة متابعة صحفيّة قياسيّة تناولها الكثيرون من منطق المسؤوليّة الإعلاميّة تجاه الثورة التونسيّة ورمزيتها التي كان من المفترض أن تكون حاضنة لكل أبنائها وبناتها وليست طاردة لهم، واعتبروا تواصل هذه الظاهرة الاجتماعيّة الخطيرة بعد الثورة إساءة لشعارات الثورة ومطالبها الاجتماعيّة، بل تناولها بعض الإعلاميين بمنطق المؤامرة على الثورة التونسيّة و محاولة لتحجيم إشعاعها العربي والدولي.

ولكن بعد تولّي حكومة مهدي جمعة مقاليد تسيير الشأن العام لاحظنا فتورا للإعلام العمومي بالخصوص في التعاطي مع هذه الظاهرة ومع ظواهر إجتماعيّة أخرى حتى أنّ حدثا في قيمة اعتصام أهالي أم القصاب لم يلاق و لو إشارات بسيطة في التلفزيون والإذاعة التونسية ووكالة تونس إفريقيا للأنباء وصحيفتي دار سنيب.

إن  الأمر يتعلّق بإعتصام قرابة عشر سكان منطقة أم القصاب على الحدود الجزائريّة منذ 18 مارس الماضي للمطالبة بتلبية مطالب حياتيّة بسيطة تمّ التنصيص على بعضها في اتفاق ممضى مع والي قفصة السابق، وكان بالإمكان أن يبقى للتحرّك طابعه المطلبي البسيط لولا خطوة غير محسوبة من والي قفصة الجديد. فأثناء زيارته للمعتصمين يوم 23 مارس الماضي وسماعه لتهديدات بطلب اللجوء إلى الجزائر لم يقدّر خطورة مثل تلك الحركة ولم يتذكّر رمزيّة الثورة التونسيّة وتصرّف بنفس غطرسة الايام الخوالي لتدشّن بلادنا لأوّل مرّة في تاريخها ظاهرة اللجوء الإنساني الجماعي.

إن اللاجئين الذين يتوزعون بين 69 رجلا و 13 طفلا و 12 امرأة يعيشون في العراء التام محرومين من الأغطية والأفرشة والماء والأكل والعناية الصحيّة، و كلّ من يزورهم مجبر على استرجاع صور المنكوبين في الدول الفقيرة في آسيا وأفريقيا، وعلى مقارنتها بمشاهد لاجئي سوريا وإفريقيا الوسطى، وكان من حقّ المواطنين التونسيين أن يتابعوا من خلال إعلامهم العمومي هذه الفاجعة في سبيل تعميم تحرّك إنساني في المقام الأوّل، غير أنّ هذا التعتيم قابله تعتيم أشنع على ظاهرة اللجوء التي كان من الممكن في سياقات مختلفة أن تخلق حتّى أزمة ديبلوماسيّة بين البلدين.

وإن كانت ظاهرة التعتيم هذه قد تحيل إلى استبطان ظاهرة التعمية على جلّ القضايا الحارقة أثناء عقود الديكتاتورية والتي لاحظ أكثر من ملاحظ بداية عودتها في أكثر من شكل أثناء حكم الترويكا، فإنني متخوف أن تكون عودتها هذه المرّة من باب القناعة الفكريّة والدفاع الإعلامي عن حقّ الدولة في "الدفاع عن هيبتها تجاه جموح مطلبي قد يقع توظيفه سياسيّا"، وفي إطار روح المسؤوليّة الإعلاميّة في الدفاع عن "السلطة الانتقاليّة التوافقية التي تحاول أن تنقذ البلاد من عودة الحكم الأحادي وسطوة الإرهاب" بعدما اقتنع  العديد من أنّ التفاف الرباعي الراعي للحوار وجلّ القوى السياسيّة حول حكومة جمعة كفيل بدعوة الجميع للاصطفاف معها والتضحيّة بكل العوائق الاجتماعيّة والاقتصاديّة.

إنّ جملة التوافقات السياسيّة مهما كان حجمها وأهميتها لا يمكن أن تحرّف المسؤوليّة الإعلاميّة من الانتماء للجمهور ومشاكله فما بالك بصانعي الثورة وشعاراتها من المهمشين والمفقرين والمعطلين، وخلاف ذلك يقود إلى إخلال مهنيّ لا يقلّ خطورة عن ظاهرة التعتيم وهي البروبغندا الإعلاميّة التي كثيرا ما تتزين بشعارات الدفاع عن الوطن والشعب والمصلحة العامّة وتنتهي في حضن إنشاء ديكتاتوريات جديدة.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.