يسرى الشيخاوي-
في مدينة المحمدية تتحوّل الشوارع والطرقات إلى مسارح ينثر عليها شباب المنطقة آمالهم وأحلامهم وتلاحقها كاميرا المخرج حمزة العوني التي تعانق الأجساد والهوامش وتستنطق الجمالية على تخوم القبح الذي يطّرز تفاصيل كثيرة.
في تلك المنطقة المهمشة التي صرخ فيها صرخته الأولى، نسج ملامح وثائقي "القرط"، ليردفه بتجربة وثائقية ثانية لم يحد فيها عن النهج الذي سطّره لنفسه منذ البداية، منحاز هو إلى الهامش والمهمشين.
ومن حكايا شباب يلاحقون التغيير ولكنه يهرب منهم كلما اقتربوا منهم رسم معالم فيلمه "المدسطنسي"، فيلم اقتفى فيه خطى اليأس الذي نطقت به الخطوات والحركات قبل الكلمات وأثر الأمل الكامن في قلوب تنبض حياة رغم كل تمظهرات الموت من حولها.
حينما تقلب أعينك بين اللقطات التي تصور المحمدية يتناهى إليك براط وثيق بين المخرج ومكان ولادته ومعيشه، ففيه البدء وفيه المنتهى ومنه يمتد الزمن من الشروق إلى الغروب في صور لا تخلو من شاعرية رغم قسوة الأحداث.
ثلاثة عشر سنة، هي مدة التصوير في زمنين تفصل بينهما ثورة، ولولا أن السنين تركت أثرها على الوجوه والاجساد لن تصدّق قيام الثورة فالوضع في الهامش لم يتغير كثيرا، في الواقع مر طيف التغيير من هنا دون أن يترك آثار تذكر.
تفاصيل مربكة يقحمك فيها الفيلم فتختلط مشاعرك بين الوجع لحال شباب حاوطتهم السوداوية من كل الأركان والارتياح لذلك الأمل المتفجّر في دواخلهم، أمل يدفعهم إلى مقاومة التهميش والإقصاء، أمل يعبّد لهم طريقة ثالثة بين الموجود والمنشود.
وفي "المدسطنسي"، محرز الطاهر هو الشخصية المحورية التي ترصد الكاميرا مسارها ومساراتها لتتولد المشاهد تباعا وتتفرع الحكايات وتتواتر الشخصيات ويتأرجح حمزة العوني في مواضع كثيرة بين الذاتي والموضوعي.
ففي الفيلم مشاهد لا يكون فيها وراء الكاميرا بل أمامها يخوض نقاشا مع شخصياته أو بالأحرى أصدقائه ويحدث أن يضطرب بناء الفيلم حينما يبلغ الصدام أشده ويمتد إلى كينونة الفيلم ذاته بنقاش علاقة حمزة العوني ومحرز الطاهر بوصفهما صديقين.
ومع تتالي المشاهد في الفيلم الذي يدوم حوالي الساعتين، يبوح العنوان بمعناه بعد أن كان في البدء مبهما، إذ تتأتى كلمة "المدسطنسي" من عوالم القمار وتحيل إلى التوهان والضياع، حالتان تلازمان الشخصيات الحاضرة في الفيلم وهي تنشد التحرر من سطوة الواقع المرير.
وعبر الأجساد الراقصة والمتحررة من أسى الذوات، ينسج المخرج خيوط الجمالية بتوثيق الأداء الكوريغرافي لمحرز ورفاقه على الخشبة، وفي كل مرة يحملك من هذه العوالم إلى عوالم تناقضها يكشّر فيها القبح عن أنيابه فيبدو في هيئات مختلفة وهو اليأس والصدام والسجن.
من الأركاح المختلفة إلى السجن حيث نامت الكاميرا، تتبدى تفاصيل من حياة محرز الطاهر ويطوّع المخرج تجربة السجن ليصنع منها مشهدا مشحونا بالتراجيديا يتلو فيها "محرز" كلمات لصديقه "حمزة"، كلمات ترشح إنسانية ووجودية وفلسفية رافقتها لقطات مارقة عن التصنيف بدا فيها متحررا من كل القيود حتى انه تسلق مرتفعا من تربة جافة وبلغ القمة.
وإن كان الفيلم الوثائقي امتدادا للواقع بكل تفاصيله وثناياه، فإن هذه اللقطات أضفت على الفيلم مسحة من الخيال فصار أقرب إلى الرؤيا وهو الذي عقب توثيقا لحديث أصدقائه عن تجربته السجنية وسبق استمرار المسيرة في نفس الشوارع والأماكن وكأن تجربة السجن حلم استفاق منه وواصل حياته.
رقص ومسرح وخمر وقنب هندي وقمار وحياة في كل تجلياتها الممتدة من البياض إلى السواد، تعايشها في "المدسطنسي" ويثقلك بوح الشخصيات وتوجعك أثار التعب في عيونهم وتلقي بك خطواتهم إذ عانقت الخشبة وضحكاتهم إذ امتدت في الأثير في حضن الأمل من جديد.
شخصيات متقاطعة واماكن مفعمة بالحكايات وسنوات طويلة جدّا وأمال ملقاة على خشبة المسرح حيث تحضن الأجساد الحرية وموسيقى يتماهى فيها الرفض بالقبول والترح بالفرح، بعض من الرواية التي لن تكتمل لأنها خلاقة معان كل حين.
من مشاهد الرقص على الركح إلى مشاهد الرقص في الجلسات الخمرية، تقول الأجساد قولها في سياقات مختلفة، إذ تهرع في الأول إلى الفن ميناء سلام ومن ثم إلى الخمر والمخدّرات لتتحرر من العقل.
وفي كل مرة تقع فيها العين على صورة بن علي في دار الثقافة بالمحمدية تكاد تنطق رغبة الشباب هناك في تمزيقها ولكنهم لا يفعلون، حديث كثير لم تنقله الكلمات ولكن باحت به الاعين لتثير حالة من النشوة في المتفرّج.
نشوة انطلقت منذ بداية الفيلم وارتفع نسقها على إيقاع المونتاج الذي يراوح بين ركحي المسرح والحياة اليومية ويجول بك بين عالمين مختلفين تتقلب فيهما الشخصيات بين تعبيرات فنية ناعمة وتعبيرات عنوانها السخط والكلمات البذيئة.
ولكن في بعض المشاهد قد يبدو لك النسق بطيئا وقد تتساءل عن الغاية من توظيف بعض المشاهد والايغال في التفاصيل إلى حد الإحساس بأنها مكررة ولكن إذا امعنت في فلسفة المخرج قد تعثر على إجابة، ربما هو ترسيخ بقاء الحال على ماهو عليه رغم التغييرات والتطورات الظاهرة.
وفي أحيان كثيرة تتسرب إليك الكآبة ويستبدّ بك التعب من فرط ملاحقة محرز الطاهر في مشاهد ممدّدة، قبل أن تغمض الكاميرا عينيها على صوت المطر المنهمر على إيقاع انهيار علاقة حب جمعت بين "محرز" و"ملاك" ولكنها لم تصمد حينما سافر إلى أوروبا ليخطو على أركاح اخرى لن تشاركه فيها.
والفيلم على طوله إلا أنه يحملك إلى دواخل شخصيات تستبطن الأسى ولكنها لا تخضع له ويقحمك في تجربة إنسانية وجودية تجعلك تتفكر في ماهيتك وكينونتك ومسارك ومآلك والأهم أنه يخبرك أنه على هذه الأرض ما يستحق المقاومة..