المأزق التونسي !

على امتداد السنوات التي تلت الثورة،عرفت التجربة الديمقراطية الناشئة في تونس هزّات و مطبّات عديدة لعلّ من أخطرها فترة ما بعد الاغتيالين السياسيين حينما كانت البلاد على شفير التطاحن بين معسكرين اثنين.

ولئن تمّ انجاز انتخابات جديدة في أواخر العام 2014 أفرزت سلطات سياسية تنفيذية وتشريعية منتخبة،فإنّ جذور الأزمة في تونس التي عصفت بنظام بن علي ظلّت تراوح مكانها،زيادة عن التداعيات الكارثية للعمليات الارهابية التي أربكت البلاد والعباد.

اليوم بلا شكّ تمرّ تونس بمفترق طرق بالنظر إلى كون التجربة الديمقراطية الرخوة باتت مهدّدة بانفجارات اجتماعية و انخرام اقتصادي ومالي زاد من حدّته تعطّل نسق تنفيذ الاصلاحات الكبرى المنتظرة التي من شأنها أنّ تمسّ الحياة اليومية للمواطن التونسي الذي تؤكد جلّ استطلاعات الرأي تنامي حالة الاحباط وخيبة الأمل لديه في الطبقة السياسية برمتها من أجل انجاز تغيير منشود.

ولطالما أشادت بعض الأطراف السياسية في تونس بما تسميه "الاستثناء التونسي" في سياق موجة ما عرف بـ"الربيع العربي" الذي سرعان ما تحوّل إلى خريف دموي هادر. هذا الموقف السياسوي الكرنفالي المغرق في التفاؤل ،وهو الذي له خلفياته التي تبررّه بعد سنوات العبث التي تلت الثورة جرّاء اخفاقات وتعثّرات من يسميهم المؤرخ فتحي ليسير بـ"هواة السياسة" وآكلي الجبنة"،يبدو أنّه بدوره في حاجة إلى تأمّلات ومراجعات.  

إنّ أصول هذا الاستثناء التونسي إن صحت العبارة هو وليد مسار تاريخي تليد ضارب في القدم. وهو أيضا نتاج اعتمالات مشروع اصلاحي تقدّمي ونضالات نخبوية من أجل الديمقراطية وحقوق الانسان والمواطنة.

قديما قال الفيلسوف ديكارت إنّ في الشكّ طريقا الى اليقين. وكم نحن اليوم في حاجة إلى وضع التجربة التونسية الوليدة موضع تساؤل وتفكير جديّ وصارم في المحصّلة  الآنية.

صحيح أنّ تونس تجنبت سيناريوهات الدمّ والانقلابات والاقتتال باسم الدين والمذهب والطائفة والعشيرة ،ولهذا التمشي تفسيرات عديدة سوسيو-ثقافية وانتروبولوجية ونفسية لها علاقة بالشخصية التونسية وبعمقها التاريخي.لكنّ التقييم العقلاني والموضوعي يشي بحصاد مرّ رغم كلّ الايجابيات.

كثيرا ما تبجّحت الأطراف السياسية التي قادت البلاد بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 بالدستور الجديد بوصفه أهم منجز بعد الثورة يمكن أن يكون النواة الصلبة للجمهورية الثانية. في هذه النقطة لن نغوص في مسائل قد تنزلق بنا إلى شعاب الشعبوية من قبيل التكلفة المالية وغيرها من المسائل.

إنّ الاهم من كلّ ذلك،هو التطرّق لمسألة حدود نجاعة تنزيل هذا الدستور على أرض الواقع ومدى قدرته على تيسير شروط وسبل تحقيق انتظارات التونسيين في الكرامة والعدالة الاجتماعية والتشغيل والتنمية. فمن الواضح أنّ النظام السياسي الذي سبق أن تم استبطان حجم انعكاساته السلبية على الحياة السياسية في تونس زمن حكم الترويكا في ظلّ "الدستور الصغير" آنذاك المنظم للسلط العمومية(القانون التأسيسي عدد 6 لسنة 2011 المؤرخ في 16 ديسمبر من نفس العام)  قد زاد الطين بلّة وهو أضحى محلّ تشكيك في جدواه حتّى من قبل بعض من كانوا وراء وضع كلاكله على السلطة وأجهزة الدولة الأسيرة حاليا.

الأمر لا يقتصر فقط على النظام السياسي الراهن الذي هو هجين ومكبّل لأيّ سلطة آنية أو قادمة،فالقانون الانتخابي هو الآخر في حاجة إلى تفكير ونقاش مستفيض استعدادا لتحديات مستقبل مبهم عمّق حيرة المهتمين بالشأن العام.

لاغرو إن جزمنا بضرورة تنسيب الأمور وعدم رمي حبل أسباب كلّ "الشرور" على غارب النظام السياسي والقانون الانتخابي الذي رشح عنه الوضع الحالي، باعتبار أنّ الطبقة السياسية والنخب والاعلام بشكل عام، جميعها، إزاء ضرورة ملحّة تقتضي حتمية تقييم أدائها واستكشاف مواطن القصور فيها فكرا وممارسة.

إنّ تونس اليوم في مأزق حقيقي لامناص من فتح الباب لتشخيص وقائعه بجرأة وشجاعة قبل فوات الأوان . ولمن يروم المباهلة والهروب إلى الأمام والتفكير الضيق وفقا لمآرب ومصالح مقيتة نقول إن غدا لناظره قريب.

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.