الـعـقـوبـة الأولـى

أن تحكم شعبا وتحلم بثقته الدائمة، أمر يتطلب تحقيق الكثير من المطالب ويستوجب ملاءمة أداء الحاكم مع واقع البلاد مع ضرورة تحديد أولويات إدارة الحكم، والسلطة المتفرغة لشهواتها السياسية مصيرها الفناء الشعبي ومستقبلها رهين تعكّر مزاج المواطنين، فلا رئيس منشود دائما ولا مناصرة أبدية للسياسيين وسرعان ما أطاحت بعض الشعوب بزعماء ناصروهم وساندوهم في بداية طريقهم.

حاكم قرطاج، قيس سعيد استثمر يوم الخامس وعشرون جويلية من عام ألفين وواحد وعشرين، الملل الشعبي من أحزاب نكّلت به وأجهضت مطالبه، واستند إلى هذا الملل وتسلح به كشرعية شعبية تفسح له المجال لمسك كل دواليب الحكم، فوجد انتصارا شعبيا واسعا لخياره ، لكنه لم يكن على وعي كاف كون هذا الانتصار مؤقت ومشروط بتغيير واقع اقتصادي واجتماعي.

لم يدم الدعم الشعبي الواسع لقيس سعيد طويلا، وبدأت ثقة الشعب في سعيد تنحرف إلى التخلي عنه وعدم استكمال مساندة مشروعه السياسي، ولا شيء يفسر تدني نسبة المشاركة في عملية الاقتراع في الانتخابات التشريعية 2022 بصفة كبرى عن نسبة المشاركة في عملية الاستفتاء الدستوريـ سوى أنها إنذار شعبي لسعيد وعقوبة سلطها عليه جزء هام ممن كانوا يدعمونه ويهبّون لنصرته في كل خطوة يتخذها بعد 25 جويلية 2022.

وبعد أن ناصر مسار 25 جويلية 2022 حوالي 2.8 مليون تونسي بمشاركة في الاستفتاء الدستوري الذي عرضه قيس سعيد، انخفض عددهم إلى أقل من مليون تونسي وهو ما يوضح حقا دخول قيس سعيد في مرحلة تقلص الثقة الشعبية وفقدان الخزان الانتخابي. 

ويمكن اعتبار عزوف عدد هام من التونسيين الذين التفوا سابقا حول المشروع السياسي لقيس سعيد  عن الانتخابات البرلمانية كونه ردة فعل على انشغال الرئيس كثيرا في خدمة البرنامج السياسي واكتفاءه بخطابات وزيارات لا تأثير لها على المقدرة الشرائية للمواطنين ولا على غلاء الأسعار وفقدان الكثير من المواد الأساسية، فمنذ 2011 جسدت الخيارات الانتخابية للشعب عقوبات للسياسيين وللسلطة، وكثيرا ما كانت توجهات الناخبين مزاجية وانتقامية ، بدءا من التصويت للباجي قائد السبسي عداء للنهضة، وصولا إلى انتخاب قيس سعيد انتقاما من الأحزاب التي أدارت الحكم طيلة السنوات التي أعقبت الثورة التونسية.

واضح جدا أن خيار عدم الذهاب إلى صناديق الاقتراع هو عقوبة شعبية أولى للرئيس سعيد سلطها عليها جزء من التونسيين الذين آمنوا بطرحه الفكري والسياسي، وقد تليها عقوبات أخرى ربما تترجمها احتجاجات شعبية في الشوارع والساحات العامة وربما تترجمها نتائج التصويت في الانتخابات التشريعية لسنة 2022.

سعيّد اليوم وبعدم إنصاته لشعب استبد به الفقر ويحاصره الجوع ويهدده المرض، مقابل إنشغاله الدائم بتنزيل مشروعه السياسي المسمى "بالبناء القاعدي" على أرض الواقع، بدأ يأكل شرعيته، شرعيته الشعبية التي اكتسبها عندما قدم نفسه بديلا عن الأحزاب التي لم تحقق مطالب الشغل والكرامة، وباتت مصداقيته على محكّ الانفجار الاجتماعي.

تونس اليوم، تحتاج إلى حال أفضل وواقع أجمل وعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة، حياة خالية من الوعود الزائفة قوامها الحرية والكرامة.

 

 

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.