العنف “صامد” أمام ترسانة من التشريعات والمكاسب النسويّة

هبة حميدي-

إنه من السَّهل أن نتعلم كيف نُطلق النَّار ونقتل، لكن من الصعب أن نتعلم كيف نحترم المرأة*..مقولة للمفكرة المصرية الراحلة نوال السعداوي تداعب الوجدان حينما تتحدثت  النساء عما تتعرضن له من امتهان لكرامتهن واعتداء عليهن ..

ووفق احصائيات رسمية ، تعهدت الوحدات المختصة في جرائم العنف ضد المراة  والطفل سواء من الامن العمومي او الحرس الوطني بحوالي69777 الف شكاية عنف طالت المراة ويعد هذا الرقم مفزعا…

اسماء شابة ثلاثينية متعلمة، وهي من ضحايا العنف الزوجي، تروي تجربتها الاليمة وتقول : تعرضت للعنف في مناسبتين، مرة خيرت الصمت لاني لم اكن اعرف كيف اتصرف، ومرة اخرى التأجات الى جهاز الشرطة، في المرة الثانية كان قراري حاسما لاني احسست يومها اني كنت على حافة الموت وفقدان حياتي ..لقد تعرضت للخنق من قبل زوجي، بادرت اولا باتصالي بشرطة النجدة لانقاذي لكنه افتك هاتفي وغادر المنزل، لملمت نفسي وتوجهت الى اقرب مركز امن من مقر سكني، عون الامن تحدث معي عن الاجراءات التي يمكن اتخذها وفي نهاية حديثه حثني على اصلاح الامر عائليا وعدم الاتجاه الى القضاء حفاظا على العائلة…

هي الاخرى مثقلة بالاوجاع والانكسارات، عواطف السيدة الاربعينية ام الطفلين التي تعيش على زهد الدنيا وفي وضعية اجتماعية هشة ، تعرضت الى عملية اعتداء بالعنف الشديد من قبل زوجها، تحدث بحرقة لحقائق اون لاين وبكل اسى ، شعرت بأنها كالطفل التائه لا تعرف الى اين تتجه كل يرسلها للكل دون ان يحاول اطلاعها على حقوقها. وتقول:تعرضت للعنف ومللت الذهاب والاياب بين المشفى ومركز الامن وليس في محفظتي مليم واحد ، لم افهم شيئا لم اعرف كيف اتصرف وجت سوى المماطلة من قبل مركز الشرطة حيث اقطن…

*مساع لتجذير حقوق المراة ولكن…

منذ الاستقلال سعت الدولة التونسية الى تمكين المراة من حقوقها واضفى عليها المشرع التونسي مكاسب تعد الاولى من نوعها في المنطقة العربية فالمرأة التونسية محظوظة في اعين غيرها من النساء العربيات وذلك لما تتمتع به من حقوق وحريات.

ورغم المكاسب التشريعية والحقوقية لا تزال أجهزة الدولة بمختلف تفرعاتها تحاول تطبيقها فعليا على ارض الواقع وتكافح ضد كل الاشكال التي تحط من مكانة المرأة عبر سن قوانين جديدة و اطلاق حملات تحسيسية وغيرها من الوسائل.

بعد 66 سنة من اصدار مجلة الاحوال الشخصية وغيرها من القوانين التي تصبّ لفائدة المرأة ، نجد أن الارقام التي تصدرها المؤسسات الرسمية تدق ناقوس الخطر وتجعلنا نعيد التفكير ونتساءل هل فعلا تتمتع المراة في تونس بحقوقها التي ضمنها لها القانون ؟

 جاء في التقرير الوطني حول مقاومة العنف ضد المرأة الصادر في 8 اوت 2022، ان عدد المكالمات الواردة على الخط الاخضر  للتبليغ عن حالات العنف ضد المرأة بلغ 1899 مكالمة متجاوزا بذلك السنة الماضية التي كانت في حدود 7500 مكالمة، ويخص 20% منها إشعارات حول العنف المسلط على النساء.

ويكشف  التقرير الذي استعرضته وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن، ان عدد المكالمات انخفض مقارنة بسنة 2020 الا ان الإشعارات اجمالا بقيت مرتفعة مقارنة بسنتي 2018 و2019.

يذكر أن عدد المكالمات الواردة على الرقم الاخضر 1899 بلغ 3468 خلال 2018 وارتفع الى 3500 سنة 2019 وبلغ ذروته خلال سنة 2020 ب15000 مكالمة وانخفض الى 7588 سنة 2021.

استفحال العنف..والزوج يتصدر قائمة المعتدين

واتضح ان العنف المعنوي هو الشكل الطاغي على الإشعارات الواردة على الرقم الاخضر للتبليغ عن حالات العنف ضد المرأة، الواردة على الرقم الاخضر 1899 وذلك بنسبة 84%، يليها العنف المادي بنسبة 72%، ويبقى العنف الاقتصادي في المرتبة الثالثة بنسبة 42% يليها العنف الجنسي بنسبة 10%، وجاء العنف السياسي في ذيل الإشعارات بـ0.60%. 

وتبين الاحصائيات الرسمية أن الفئة العمرية الأكثر عرضة للعنف اللاتي اتصلن بالرقم الأخضر، هي الفئة التي تتراوح أعمارهن بين 30 إلى 40 سنة وذلك بنسبة 40% وتليها الفئة العمرية بين41 و50 سنة بنسبة 25%، وتعد هاتين الفئتين "العمر تحت الضغط".

وسجل التقرير، أن الزوج هو القائم بالعنف في 74% من الحالات الواردة على الرقم الاخضر 1899، ثم شخص دون قرابة بنسبة 19%، يليها العائلة بنسبة 6% والمشغل بنسبة 1%.

 

 

*ضعف معرفة الاجراءات القانونية التي تنصف الضحية

تشير المعطيات الصادرة عن وزارة المراة، إلى أن طلب الارشاد القانوني يمثل أعلى النسب لفائدة المتصلات بالخط الاخضر، وهو ما اعتبرته دليلا على ضعف معرفتهن بالحقوق القانونية واجراءات التقاضي التي تتمتع بها الضحايا لحماية أنفسهن وتتبع الجناة. 

ومقارنة بسنة 2020 فقد ارتفعت الطلبات المتعلقة بالارشاد القانوني من 87.5 إلى 96% سنة 2021.

 

وبالنبش في مدى اطلاع النساء ضحايا العنف عن حقوق التقاضي،  تبين ان غياب المعرفة القانونية هي من اكثر المشاغل التي تسعى المراة للحصول عليها من خلال بحثها وراء الاستشارات القانونية التي يمكن ان تساعدها على التعرف على مختلف حقوقها وتةضح لها الخيارات المتاحة امامها قصد مساعدتاها على اتخاذ قرارات تتماشى مع وضعيتها الاقتصادية والاجتماعية.

 

*الاشكاليات  التي تواجه النساء ضحايا العنف في النفاذ إلى العدالة

وفي 2017 سنت تونس قانون عدد 58 لسنة 2017 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة والطفل، لكنه لا يزال اليوم يجد عراقيل عدة لاعتماده من قبل القضاة.

وأعدت الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات دراسة حول مدى حسن تطبيق  هذا القانون  بعد أكثر من 3 سنوات من دخوله حيز النفاذ والوقوف على مدى انصهار السلطة القضائية في التصدي ومكافحة العنف ضد النساء من خلال الأحكام الصادرة عنها.

وتشير هذه الدراسة الى مختلف المشاكل التي تواجه النساء ضحايا العنف في النفاذ إلى العدالة والوصول الى حقهن عند تتبع المعتدين وذلك من خلال الاستماع إلى 35 شهادات  لسيدات ضحايا العنف، اضافة الى دراسة ملفات قضائية سواء تلك التي تم التعهد بها بمراكز الاستماع والتوجيه للنساء ضحايا العنف للجمعية او بتحليل ما يقارب 65  حكما جزائيا ومدنيا صادرين بمقتضى القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017. 

كما رصدت صعوبات امام تطبيق  قانون 58 لسنة 2017، وهي متأتية من داخل منظومة العدالة في حد ذاتها والتي يمكن اعتبارها صعوبات مؤسساتية مثل الوصم من قبل أعوان الضابطة العدلية وسوء المعاملة والتحيز الجنساني لبعض القضاة وغياب مكاتب للإرشاد القانوني أو خلايا لاستقبال وتوجيه النساء ضحايا العنف في المحاكم.

وضمنت الدراسة عدم التمتع  بالحق في الإعانة العدلية بصفة آلية وعدم وضوح إجراءاتها وبطئها وطول مدة التقاضي وغياب التخصص لدى القضاة في مجال العنف المسلط على النساء وغياب دوائر قضائية متخصصة دون الاخذ بعين الاعتبار لخصوصية الضحايا  مما يشكل عائقا  مضاعفا لإنصاف النساء.

كذلك و في ظل غياب مؤسسة المرشد القضائي، والتي وإن لم يتم إلغاءها بشكل رسمي، فقد أصبحت فعليا غائبة على مستوى أغلب المحاكم وهو ما يضيع وقت و جهد النساء في البحث داخل أروقة المحاكم عن المعلومة ويساهم في استسلامهن وعدم قدرتهن على مواصلة إجراءات التقاضي (مثلا في محكمة تونس الابتدائية لا يتم قبول الشكاوى إلا بين الساعة التاسعة والحادية عشر صباحا، ولا يتم  التحرير على الضحية الشاكية الا عند إحالة ملفها الى الفرقة المختصة، وأحيانا تمر الشكاية بمكتب الضبط فقط دون إمكانية سماعها من قبل وكيل الجمهورية) .

* جمعة النساء الديمقراطيات تضع يدها على الخلل ووزاة الصحة تتفاعل

من المشاكل الاخرى التي تواجه النساء ضحايا العنف، حسب ما رصدته جمعية النساء اليمقرايات خلال اللقاءات التي اجرتها مع ضحايا العنف، نذكر عدم تطبيق مبدأ مجانية الشهادة الطبية للنساء ضحايا العنف الزوجي بصفة آلية من قبل اغلب المستشفيات كما أن استلام هذه الشهادة قد يأخذ وقتا طويلا بعد الفحص، نفس الشأن بالنسبة للاختبارات التي تتطلب أحيانا عدة أشهر مما يعطل الفصل في الملفات.

ولتجاوز هذا العائق ومساعدة النساء ضحايا العنف امضت وزراة المراة ووزارة الصحة منشورا مشتركا في افريل 2022 يتعلق بمجانية الشهادة الطبية الاولية وتسيير اجراءات استخلاص معاليم الفحوصات الطبية والاقامة ليشمل كل حالات العنف ضد المراة  وعدم الاقتصار على حالات العنف الزوجي.

بعد اكثر من 3 سنوات على دخوله حيز النفاذ ، توصلت الدراسة التي نشرت خلال 2021 بعد تقييم بعض الاحكام الجزائية إلى  أنه وعلى مستوى جرائم العنف الزوجي و بالرغم من ارتفاع نسبة العنف المادي ضد النساء إلا انه لا توجد رغبة ولا إرادة لمقاومته من قبل  بعض القضاة ويرجع  ذلك للعقلية الذكورية للبعض منهم  القائمة على جواز تأديب الزوج لزوجته والقاء المسؤولية في التسبب فيه على النساء.

كما تمت ملاحظة تسامح على مستوى الأحكام الصادرة بالمقارنة مع افعال العنف المشتكى بها وينتفع المعنِّفون في أغلب الاحيان بظروف تخفيف حتى في الحالات التي يشدد فيها المشرع العقاب. 

كما ان هناك عدم وجود تناسب بين مدة الراحة المضمنة في الشهادة الطبية الأولية والعقاب في مختلف الأحكام وكذلك الحكم بعقوبات غير رادعة ولا تتناسب مع خطورة الاعتداءات المسلطة على حرمة النساء الجسدية والمعنوية وكرامتهن بتعلة المحافظة على العلاقات الأسرية وأخذا بالظروف الشخصية والاجتماعية والعائلية للمعتدي وهو حق في حق الضحايا. 

*غياب تطبيق بعض فصول القانون عدد 58 لسنة 2017

اما بالنسبة للعنف الجنسي وخاصة في جرائم الاغتصاب، رصدت الدراسة تمسك بعض الاحكام بتطبيق القانون القديم متغاضية على وجود الفصل 227 جديد كما وقع تنقيحه بمقتضى القانون الاساسي عدد 58 ويبدو ذلك على مستوى المصطلحات والعبارات المستعملة والتي لا يستوعبها الفصل 227 جديد مثل مواقعة أنثى، الوطء بالمكان الطبيعي،  واعتبار وان الجريمة لا تتوفر بمجرد الفعل الفاحش وإنما تقوم إذا كان هناك وطأ بالمكان الطبيعي وبطريق الإيلاج.

كما يواصل البعض من القضاة اعتبار الاغتصاب جريمة شرف ولا توجد احكام تدين الاغتصاب الزوجي كما لا يوجد اغتصاب في حالة غياب عنف وتهديد من قبل الجاني حتى وإن كانت الضحية اقل من 16 سنة ولا وجود لعدم الرضا بدون مقاومة

كما يستنتج وجود الرضا من وجود علاقة عاطفية بين الأطراف أو من تعود الضحية على ممارسة الجنس أو عدم وجود آثار عنف عند الفحص الطبي اما بالنسبة للعقوبات ينص الفصل 227 جديد على عقوبة أصلية ب20 سنة سجن وعقوبة مشددة بالسجن مدى الحياة لجريمة الاغتصاب بينما تتميز الأحكام الصادرة في حق المغتصبين وخاصة الاطفال  بأنها لينة مقارنة بفظاعة الأفعال المرتكبة وآثارها على الضحايا  كما أن هناك تطبيق شبه آلي لأحكام الفصل 53  من المجلة الجزائية المتعلقة بظروف التخفيف وتمتيع  المغتصبين بأحكامه نظرا لنقاوة سوابقهم العدلية وللظروف الشخصية والاجتماعية.

*وزارة المراة تقر بوجود اشكاليات

لم تخف وزارة المراة وجود إشكاليات قانونية ومالية وتنفيذية ومعريفية  تقف حاجز امام اعتماد قانون 58 لسنة 2017 في  قضايا العنف التي تطال النساء. 

وتتمثل الاشكاليات القانونية مثلا في الضعف المعرفي بمقتضيات  قانون 58 لدى جميع المتدخلين سواء من الهياكل الحكومية في حد ذاتها او من مكونات المجتمع المدني او من الضحايا ، غياب الارشاد القانوني المجاني في المحاكم يثقل كاهل الضحية، عدم اتخاذ قرارات الحماية والتعهد من قبل قاضي الاسرة. 

في حين تتلخص الاشكاليات المالية في ضعف الاعتمادات المرصودة  لانفاذ مختلف محاور قانون 58  من وقاية وحماية وتعهد زذلك على مستوى ميزانيات مختلف الوزارات.

اما الاشكاليات المعرفية فتتمثل في سجيل بعض المواقف الرافضة لتنفيذ مقتضيات القانون 58  لسنة 2017 لانه يهدد التوازن والاستقرار اللاسري..!

ونجد ايضا الاشكاليات التنفيذية  والتي تتبلور في عدم توفر خدمات التعهد  بالنساء ضحايا العنف في مختلف الولايات بصفة متساوية على  غرار مراكز ايواء النساء ضحايا العنف مما يسهل عملية الحماية الحينية، اضافة الى عدم حصول النساء ضحايا العنف على الحماية العدلية.

*الجمعيات النسوية عين مراقبة

لا شك ان مكونات المجتمع المدني تعاضد مجهودات مؤسسات الدولة في مكافحة كل اشكال العنف ، بل ونجدها تذهب ابعد من ذلك عبر عمليات مراقبة وتتبع.

ولمراقبة مدة تطبيق القانون عدد 58، قامت أصوات نساء برفع دعوى ضد وزارة الداخلية لدى هيئة النفاذ الى المعلومة على خلفية مطالبتها  بالحصول على قاعدة البيانات الخاصة بجميع الوحدات المختصة بالبحث في جرائم العنف ضد المرأة بكامل تراب الجمهورية و عدم الاستجابة لمطلبها من قبل الوزارة ، وقد اصدرت الهيئة قرارها عدد 2528 بقبول الدعوى في الشكل و الأصل و الزام وزارة الداخلية بتمكين أصوات نساء من المعلومات المطلوبة.

 

صحيح ان المراة التونسية تقدمت اشواطا مهمة في مجال الحقوق والحريات والمكاسب، الا انها لم تصل بعد الى مكانة حقوقية مرموقة، وظل العنف الزوجي والاستغلال الاقتصادي ينهش فئة واسعة من نساء تونس وخاصة في الجهات الداخلية التي لا تزل فيها المرأة خاضعة للتقاليد والعرف الاجتماعي….

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.