العلاقات الدولية التونسية: بين خرافات الحرب الباردة، والسمسرة ،والغباء …

ما زالت الذهنية العامة في تونس تتعامل مع التجاذبات الدولية بذهنية القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. فلا يخفى على أحد أن الرئيس الحبيب بورقيبة اختار رؤية استراتيجية وعقيدة ديبلوماسية تقوم على علاقات متينة مع الولايات المتحدة في النواحي العسكرية والأمنية والسياسية وبدرجة أقل الاقتصادية… وهذا الاتجاه كان في ذلك الظرف إجراء براغماتيا باعتبار حداثة العهد بالاستقلال عن فرنسا والحالة الهشة التي تعيشها أوروبا التي كانت في حد ذاتها محتاجة إلى دفع أمريكي للنهوض (مشروع مارشال)، وكذلك حجم تونس الاستراتيجي والعسكري الهش في منطقة حرجة تجمع بين العمق العربي الإسلامي من جهة والأورومتوسطي الإفريقي من جهة ثانية، هذا بالإضافة  إلى الأوضاع الإقليمية المضطربة باعتبار خروج العالم من حرب عالمية مدمرة… 
في تلك الفترة كانت سياسة الولايات المتحدة متركزة على استراتيجية تجمع بين التصدي للزحف السوفياتي، وضمان وجود وتفوق إسرائيل، وضمان الأمن العالمي العسكري والاقتصادي والتجاري بما يخدم مصالح الولايات المتحدة والقوى الصاعدة التي تدور في فلكها. وكانت سياسة الولايات المتحدة تقوم على عقد تحالفات من الأنظمة (ليس الشعوب) العسكرية والشبه عسكرية والأمنوقراطية، وكانت تموّل وتقود الانقلابات العسكرية والأمنية بما يضمن استمرار أنظمة ديكتاتورية التي تسير في نفس الخط الاستراتيجي الأمريكي الذي يقوم على صد المد السوفيتي ومنع بروز تكتلات إقليمية قد تجنح نحو بناء ذواتها على غرار المشروع القومي العربي وغيره. فكانت سياستها في العالم العربي والإسلامي تقوم  على دعم تنظيمات الإسلام السياسي تارة ومعاداتها تارة أخرى من أجل إحداث معادلة تكتيكية تقوم على تثبيط المشروع القومي العربي والتصدي للمد السوفيتي وضمان وجود وتفوق إسرائيل.
بعد انهيار المعسكر السوفيتي وزحف العولمة وبروز الصين وقوى اقتصادية أخرى صاعدة، ومع بروز قيم دولية جديدة، أدركت الولايات المتحدة أن الأساليب القديمة التي تقوم على عقد تحالفات مع الأنظمة الديكتاتورية لن تجدي نفعا في المستقبل القريب والمتوسط، فكانت مراكز الأبحاث والهيئات الاستشارية والبحثية الأمريكية الرسمية تنظّر لاستنباط أساليب جديدة من أجل ضمان المحافظة على العمق الاستراتيجي الأمريكي في عديد البلدان والأقاليم. فكانت الديمقراطية هي كلمة السر الساحرة في هذا الاتجاه.
العديد من الباحثين يتحدثون هذه الأيام عن رجوع تقاليد الحرب الباردة بثوب جديد، وعن نزعات الهيمنة لدى القوى الغربية والشرقية . لكن مفاهيم السيطرة والنفوذ تغيرت وتبلورت كثيرا خلال العقدين الأخيرين . فالتاريخ علّمنا أن أي كيان صاعد (إمبراطورية أو حلف) يسعى للتوسع والهيمنة انطلاقا من آليات عسكرية قهرية وكذلك آليات إيديولوجية قد تتخذ طابعا دينيا عقائديا أو عقلانيا وضعيا.فالغرب والولايات المتحدة يستعملون الإسلام السياسي والديمقراطية كذخيرة ايديولوجية للسيطرة الناعمة على الشعوب وللمحافظة على العمق الاستراتيجي الغربي في عديد البلدان والأقاليم.  وهذه الدمقرطة تحمل في ظاهرها قيما وحقوقا كونية جميلة دون أدنى شك (الحقوق الاجتماعية، مناهضة التعذيب، حرية المبادرة، حقوق المرأة، حقوق الأقليات…) لكنها تحمل بين طياتها قيم الليبرالية المتطرفة وآليات لتثبيط قدرة الشعوب على النهوض الذاتي وإحداث تكتلات إقليمية تضمن بها تموقعها وعمقها الاستراتيجي.
الديقراطية الغربية الأيديولوجية هي المهيمنة حاليا، وقد نجحت هذه الإيديولوجية في تحقيق انتصارات واختراقات مهمة في أروربا الشرقية  وبدرجة أقل إفريقيا وأمريكا الجنوبية وجنوب شرق آسيا. مقابل أفول نجم الإيديولوجية المشتقة من الإشتراكوية والشبه ممانعة والتي كلما ظهرت في بلد إلا وتماهت معها الصين وروسيا وبدرجة أقل الهند وإيران… العديد من الكيانات كإيران والسعودية تسير نحو إيقاف تصدير الإيديولوجيات العقائدية التي كانت تعتبرها من شروط بقائها كأنظمة وقوميات متماسكة، وإن كان ذلك التماسك صوريا. ولعل هذه الكيانات مطالبة بإحداث تغييرات داخلية جذرية للحفاظ على كيانها بعيدا عن منطق تصدير الأزمات والتصدير الهستيري للإيديولوجيات البدائية. ولعل النظام التركي (العثماني – الجديد) يعيش نفس الأزمة بعد أن راهن على تسويق أوهام الخلافة العثمانية والتلاعب بالوجدان الطفولي لعديد الشعوب "الإسلامية" التي تعيش حالة اختناق تجعلها متعطشة لأمة إسلامية افتراضية موهومة تحقق من خلالها كياناتها. أما الصهيونية فلقد دخلت في أزمة بنيوية، فبعد أن كانت داعما للمشروع الحضاري الغربي وسدا منيعا لصيانة المصالح الغربية، أصبحت تعيق الواقع الكوني الجديد الذي يتبلور رويدا رويدا باعتبارها تحولت إلى عائق لعديد المصالح المتعلقة بالدول والتكتلات العالمية ورؤوس الأموال الزاحفة. وهذا ما جعل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يمارسان نوعا من الضغوط الناعمة على إسرائيل من أجل حل القضية الفلسطينية في أقرب وقت ممكن، وذلك من أجل الترويض الناعم لإيران والمد الشيعي، والقضاء على الذرائع التي تجعل العديد من الدول العربية-الإسلامية والشرق أوسطية تجنح نحو الشرق، كذلك للتخفيف من حدة الزحف الجهادي الذي يزعج أمنيا واقتصاديا واستراتيجيا مصالح رأس المال والتكتلات العالمية الزاحفة. 

ما يشهده العالم اليوم من تجاذبات دولية يوحي بعودة الحرب الباردة واستفاقة الغول الشرقي الروسي وما إلى ذلك من الخرافات. لكن هذا الطرح هو جزء من المسألة ولا يمكن إسقاطه على الواقع بنمطية وبمعزل عن التبلورات الكونية الجديدة. فتقاليد الحرب الباردة ما زالت قائمة لكنها تسير نحو الاضمحلال مقابل الاتجاه نحو بلورة قيم دولية جديدة ستكون فاعلة في المستقبل. 
هذه الديمقراطية الأدلوجية الغربية قد تنقلب على صانعيها ومروجيها، وربما سيشهد العالم قريبا تغيرات جذرية تؤدي إلى تغيير بنية النظام الدولي وبلورة قيم دولية جديدة ستكون فاعلة في المستقبل. فالأزمة المتعلقة بشبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا أخيرا قد تكون مجرد زوبعة في فنجان أمام الواقع الكوني الجديد وعديد الاعتبارات الموضوعية التي نذكر منها  : تنامي ظاهرة الإرهاب؛ تخفيض اعتماد الولايات المتحدة على النفط الخليجي مقابل الزحف نحو آسيا الوسطى وجنوب شرقها؛ اعتماد الصين على نفط السعودية والإمارات وإيران؛ تعمّق المصالح المتشابكة بين الولايات المتحدة وأروبا من جهة والصين وروسيا من جهة ثانية في مجالات حيوية كالتجارة والطاقة والاستثمار والمالية والأمن العالمي؛ بروز روسيا والصين ومجموعة دول البريكس كقوى فاعلة لها مكانتها العالمية وقدرتها على التأثير في السياسات الغربية والأمريكية؛ الأزمات المالية والاقتصادية التي عاشتها وتعيشها الولايات المتحدة والغرب؛ ظهور الحاجة إلى تغيير ديمقراطي مُمنهج في عديد البلدان العربية والإسلامية نظرا لفقدان فاعلية الديكتاتوريات القائمة بها؛ تغيّر الرأي العام الشعبي في الغرب بعد أن أصبح رافضا للحروب والتدخل العنهجي في شؤون الشعوب الأخرى حتى ولو كان ذلك بطريقة ناعمة؛ بروز الحركات المعادية للصهيونية وتنامي دور الحركات اليسارية في جنوب أمريكا ؛ الضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي والعديد من الدوائر الأكاديمية على إسرائيل من أجل التعجيل بحل القضية الفلسطينية…
النظام الدولي سيتبلور ولن نعود إلى القطبية الثنائية بمعناها الكلاسيكي بمضامين الحرب الباردة ، ولن نعود كذلك لنظام التعددية القطبية لما قبل الحروب العالمية. قد تعود هذه الأشكال من القطبية بنمط معتدل جدا ثم تسير نحو الاضمحلال، وقد يمر العالم مباشرة إلى الكونية والليبرالية المطلقة في العلاقات الدولية من سياسة واقتصاد، مقابل اضمحلال تدريجي للعبة المحاور والتكتلات بمعناها الكلاسيكي. وقد يبدو هذا مزعجا لأصحاب الميولات "اليسارية الثورية" لكنه قد يكون إيجابيا لإيجاد ديناميات ومفاهيم جديدة لكفاح الشعوب ضد الرأسمالية والليبرالية المتوحشة والأنماط الاقتصادية التي تقوم على التفقير والتجويع، باعتبار أن الأنظمة سواء القائمة في البلدان المتقدمة أو في ما تسمى بلدان العالم الثالث لن يكون بمقدورها الحصول على "مشروعية" مستمدة من المعايير والقيم الحالية أو السابقة والتي تقوم على إيجاد عدو خارجي سواء إيديولوجي أو حضاري أو اقتصادي أو أمني. فالشعوب ستكون قادرة على أن تفرز أنظمة تخدم الإنسان بعيدا عن الهوس بوجود خطر عقائدي أو إيديولوجي أو غير ذلك يهدد كيانها العام. 
إثر صعود الإخوان إلى الحكم في تونس إثر انتخابات 23 أكتوبر 2011 أدخلوا البلاد في لعبة محاور تستمد أسسها النظرية من فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وتقاليد الحرب الباردة ، وهذا يعود لأسباب إيديولوجية وتكتيكية باعتبار غياب تقاليدهم في الحكم وانعدام نفوذهم في الدولة العميقة التونسية، والدعم الذي قدمته الولايات المتحدة.
من الرهانات الصعبة التي على تونس مواجهتها اليوم إرجاع الدبلوماسية التونسية إلى طريقها السليم بما يتماشى مع حجم تونس وطبيعة اقتصادها ومصالحها. فلعبة المحاور التي خاضها إخوان تونس ساهمت في تشويه خارطة العلاقات التونسية، وخلق عداءات وتشنجات لا مصلحة فيها لتونس. وهذا يعود لاعتبارات إيديولوجية وارتباطات خارجية وانعدام النفوذ في الدولة العميقة.    فبعد 14 جانفي 2011 أصبحت تونس مسرحا لتفعيل ركيك لنظريات وتكتيكات "صدام الحضارات" التي تبلورت في الولايات المتحدة ومراكز الدراسات بعد مزاوجتها بالدمقرطة الموجّهة التي تقوم على تدجين الشحنات الروحية للشعوب وجعلها تحت السيطرة. فكان الالتجاء إلى الذخائر الإيديولوجية لتعويض الذخائر العسكرية المكلفة والديكتاتوريات التي لم تعد تجدي نفعا …
بسبب دبلوماسية الإخوان ، وجدت تونس نفسها داخل محور متشعب وغامض، تقف وراءه لوبيات مرتبطة بالصهيونية (منظمة آيباك وبعض مراكز الدراسات الأمريكية)، وتيار من المحافظين الجدد في الولايات المتحدة بقيادة ماكين، إضافة إلى قطر، وتركيا التي تحمل أطماعا قومية توسعية يقودها التيار الإسلامي ما بعد أربكان المتمثل في حزب العدالة والتنمية، الذي على عكس التنظيم الإخواني في تونس، تصالح مع الموروث التركي وحافظ على النزعة الوطنية-القومية التركية، بحيث يكون الطابع الإيديولوجي “الإسلامي” مكملا للنزعة القومية-الوطنية التركية ووسيلة لتحقيق التوسع الاقتصادي والتجاري والإستراتيجي.
كانت المواقف الدبلوماسية لإخوان تونس متماشية مع هذا المحور في ما يخص عديد القضايا العربية والإقليمية. وآخر المواقف كان من الأحداث الأخيرة في مصر، حيث كانت التصريحات خاضعة لمنطق الإيديولوجية والانتماء للجماعة والمحور، في وقت تحتاج فيه تونس إلى مواقف أكثر تعقلا والتزاما باعتبار أن ما يجري في مصر يعتبر شأنا شعبيا داخليا خاضعا لديناميكية اجتماعية – سياسية تستوجب موقفا يميل نحو الحياد والدعوة إلى المصالحة بعيدا عن أدلجة الدبلوماسية وإخضاعها لخدمة المحاور العالمية التي لن تفيد تونس بشيء. ومن أبرز المواقف التي أبرزت انحطاط الدبلوماسية الإخوانية الموقف من القضية السورية، باحتضان مؤتمر أصدقاء سوريا وطرد السفير السوري، فالتطورات الأخيرة في الأزمة السورية أثبتت التبعات السلبية للقرارات والإجراءات الدبلوماسية المزاجية والمؤدلجة التي تخضع لمنطق المحاور واللوبيات.
ساهمت لعبة المحاور هذه في عزل تونس عن عمقها العربي انطلاقا من الجزائر ومصر وصولا إلى السعودية والإمارات وعديد الدول الشرقية. هذا بالإضافة إلى ربط تونس بتجاذبات تدور في كواليس الإدارة الأمريكية بين شق يستميت في الدفاع عن المشروع الإخواني وآخر يكن له العداء، خاصة بعد تحرك المخابرات السعودية بالتنسيق مع شق من المحافظين الجدد وتيار متشدد من اللوبي الصهيوني في ما يخص الموقف من المشروع الإخواني والنظام السوري ورفع العقوبات عن إيران.
تونس اليوم في حاجة إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذه "الثورة" التي كان بالإمكان توظيف زخمها العالمي بما يخدم تونس في عديد المجالات الحيوية من سياحة وصناعة وتجارة واستثمار وجلب للتقنيا الحديثة. وهذا لا يكون إلا بانتهاج عقيدة ديبلوماسية جريئة وواضحة تقوم على هامش من استقلالية القرار في التعامل مع الشرق والغرب والعمق العربي والإفريقي، بعيدا عن الذهنيات المتكلسة لتقاليد الحرب الباردة. فزيارة وزير الخارجية لافروف إلى تونس في المدة الأخيرة تبين القيمة الإستراتيجية للثورة التونسية التي لم يقع توظيفها بحكمة. فالدول الشرقية وغيرها على غرار روسيا ليست جمعيات خيرية، هذا لا نشك فيه، لكنها يمكن أن تكون ورقة لدفع التنمية الشاملة وجلب تقاليد الإنتاج والتقنيات الحديثة التي تساهم في النهوض الشامل، شرط أن تكون لتونس عقيدة ديبلوماسية ذكية ومتوازنة ومنضبطة … 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.