الطبيعة القانونية للعملات الإفتراضية: البيتكوين ”Bitcoin” نموذجًا

بقلم الأستاذ نادر الخماسي: المحامي والباحث في القانون-

تعرضت النقود لعدة متغيرات منذ نشأتها، بسبب التطور الذي يطرأ على تعاملات البشر، منذ بداية تعامل البشر بتداول وسائل الدفع عن طريق الأطعمة والجلود إلى أن وصلت للتعامل بالمعادن الثمينة كالذهب والفضة، ولصعوبة نقل هذه المعادن الثمينة، اتجهت الحكومات إلى إصدار سندات وعملات ورقية تقوم مقام المعادن الثمينة كوسيلة للتداول وتسوية المدفوعات وذلك لسهولة نقلها وحمايتها من المخاطر.
 
ومع بداية ثورة التكنولوجيا التي اجتازت جميع التعاملات البشرية بما فيها التعاملات المالية والتحول الإلكتروني للتجارة وتغير وسائل الدفع التقليدية، كان لابد على الدول من استحداث النقود الرقمية لمجاراة الشركات الخاصة التي تتميز بطبيعتها التجارية بقصد تحقيق الربح المالي. 
 
هذا وتحظى العملة الإفتراضية بإنتشار واسع في مختلف أنحاء العالم حيث اعترفت ألمانيا رسميًا بأن "البتكوين" نوع من النقود، كما أقر القضاء الفدرالي الأمريكي بأن "البتكوين" نوع من أنواع النقود وعملة يمكن إخضاعها للتنظيم الحكومي، لكن دون اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بها بشكل رسمي، كما إحتضنت كندا أول جهاز صراف آلي ATM  لعملة البتكوين، كما اتخذت عملت البتكوين سبيلاً للإنتشار في الدول العربية كالأردن ودبي .
 
لكن وأمام هذا الإنتشار الواسع للعملات الإفتراضية في العالم هناك العديد من الدول التي لم تعترف إلى حد الأن بهذا النوع الجديد من العملة ومنها القانون الجزائري والقانون التونسي الذي تجاوز ذلك إلى حدود تجريم التعامل بالعملات الإفتراضية ومنع التعامل بها.
 
وعمومًا يرتبط مفهوم العملة بسيادة الدّولة حيث تشكّل العملة الوطنيّة تجسيدا لاستقلاليّة سياستها النّقديّة والماليّة، وتعد عمليّة إصدار النّقود، والمحافظة على استقرار سعر العملة الوطنيّة، من أولى المهام التي تضطلع بها الدّولة ومن أكثرها أهميّة نظرا لحساسيّتها الشّديدة لمختلف التأثيرات الدّاخلية والخارجيّة، وانعكاساتها المباشرة على النّظام الاقتصادي فيها.
 
هذا وقد تولّى المشرّع التونسي بموجب الفصل 8 من قانون 25 أفريل 2016 والمتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي، بإسناد هذا الأخير صلاحية إصدار العملة التونسي، حيث جاء بالفصل المذكور أنه يتولى البنك المركزي التونسي خاصةإ"صدار العملة وتعهدها وتسهيل تداولها في البلاد التونسية".
 
وإضافة إلى ذلك فإن القانون التونسي قد نظم كل المسائل التي تتعلق بالعملة سواء في خصوص الصرف أو التجريم وذلك بالمجلة الجزائية ومجلة الصرف والتجارة الخارجية ومجلة الديوانة ونصوصها التطبيقية.
 
وعمومًا أمام انتشار هذا النوع الجديد من العملات في العالم انقسم فقهاء القانون والخبراء في المجال المالي والإقتصادي حول الطبيعة القانونية للعملات الإفتراضية، وأمام الغموض حول ماهية العملات الإفتراضية كان لابد من التساؤل حول طبيعتها؟.
 
للإجابة عن هذا الإشكال كان لابد أن نبين الإطار المفاهيمي للعملة الإفتراضية من جهة قبل التعرض لطبيعتها القانونية وموقف المشرع التونسي منها .
 
1- مفهوم العملة الإفتراضية : 
تعتبر العملة الافتراضية من أحدث إفرازات الثورة الرقمية، وهي تمثل أحد أشكال النقود الرقمية المتاحة في العالم الافتراضي، وتعد من النقود الرقمية لأنها موجودة حصرا في الفضاء الرقمي، حيث يتم انتاجها بواسطة برامج حاسوبيّة وتكون مخزّنة في محافظ الكترونّية، ولا يمكن الوصول إليها إلا بواسطة
الحواسيب أو الهواتف الذّكيّة التي تكون قيد الاتصال بشبكة الانترنيت، فقد جاء تعريفها في المادة 117 من قانون المالية الجزائري لسنة 2018 بأنها "تلك التي يستعملها مستخدمو الأنترنيت عبر شبكة الأنترنيت، وهي تتميّز بغياب الدعامة المادية كالقطع والأوراق النقدية وعمليات الدفع بالصك أو البطاقة البنكية".
 
كما تم تعريف العملة الإفتراضية من قبل بنك التسوية الدولية "BIS" بأنها "منتجات مخزونة القيمة أو مدفوعة مقدما، تكون فيها القيمة المسجلة والمتاحة للمستهلك مخزنة على جهاز الكترونيّ في حيازته، تلك القيمة يشتريها المستهلك كما يشتري السندات المدفوعة مقدما، وتنخفض هذه القيمة كلما استخدم المستهلك الجهاز الإلكتروني في عمل مشترياته".
 
فتكون بذلك جميع العملات الافتراضية رقمية، في حين لا تعتبر جميع النقود الرقمية افتراضية، فالنقود الالكترونية هي أيضا نقود رقمية، إلا أنها تختلف عن النقود الافتراضية في كونها مرادف الكتروني للنقود التقليدية الورقية، فهي رصيد نقدي ورقي محمل الكترونيا في بطاقة بلاستيكية Carte Bancaire ممغنطة تصدرها بنوك تقليدية، أو بنوك افتراضية.
 
هذا وتعرف سوق التبادل بالعملات الرقمية حاليا ما يقارب الستين عملة افتراضية، أهمها البتكوين إلى جانب عملات أخرى مثل ليتكوين (LTC)، اثوريوم (ETH)، زاد كاش (ZEC)، الريبل (XPL)، وداش (DASH )، يتم خلق هذه العملات عبر شبكة الأنترنيت وفقا لآليات محددة عن طريق ما يعرف بالتّعدين  وذلك باستخدام برامج مجانية مفتوحة المصدر يتم تثبيتها على حواسيب المعدنين.
 
وبمجرّد تشغيل البرنامج يكون الحاسوب قيد الاتصال مع شبكة العملة، ليبدأ في القيام بحسابات معقّدة وفك شفرات الحظر، حيث يحتاج المعدّن في هذه العملية إلى حل مجموعة من الخطوات الرياضية والمنطقية المتسلسلة لكشف سلسلة طويلة من الأرقام والحروف تميل إلى التعقيد كلّما ارتفعت الكميّة التي يتم إصدارها.
 
وفي حال نجاح الحاسوب في الوصول إلى الحل بشكل صحيح يحصل المستخدم على عدد معين من وحدات العملة الافتراضية المنتجة، التي يتم تخزينها بعد ذلك في المحفظة الرقمية الخاصة به، وكلما تم خلق مجموعة جديدة من القطع النقدية الافتراضية لدى كل مستخدم يتم توزيع هذه المبالغ وفق خوارزمية معينة تجنبها مخاطر التضخم، فمثلا لا يمكن أن تصل القيمة الكلية لعملة "بتكوين" المتداولة في السوق لأكثر من 21 مليون وحدة بتكوين حول العالم.
 
هذا وتتميز العملة التقليدية عن العملة الإفتراضية بكونها عملة ذات وجود مادي ملموس وتصدر عن سلط مختصة (البنك المركزي في تونس هو الهيكل الوحيد الذي خول له القانون إصدار العملة) وتحكمها قوانين خاصة، وتصدر هاته العملات التقليدية إما في شكل أوراق نقدية أو قطع نقدية "مسكوكات"، كما أن لهذه العملة بعد سياسي حيث إنها تعد رمزًا من رموز السيادة وأن الإعتداء عليها هو اعتداء على سيادة الدولة وجريمة من الجرائم التي تقع على أمن الدولة وهو ما انتهجه القانون التونسي مثلما سنبين ذلك لاحقًا. 
 
هذا وتعد الخصائص التي تميز عملة "البتكوين" عن العملة التقليدية هي محور الإبتكار كذلك النظام المميز لآلية عملها القائم على نظام رياضي خوارزمي يضمن أمنها ويعزز من ثقة المستخدمين والمتعاملين به كنظام نقدي بديل، ومن خصائص عملة البتكوين كأحد أشهر العملات الإفتراضية نجد:
 
*نظام الإصدار أو ما يعرف بالتعدين: حيث تختلف عملية إصدار عملة البتكوين نهائيا عن النقود القانونية الورقية أو النقود الرقمية التي يتم إصدارها من البنوك المركزية، والتي تستمد سلطة إصدارها من سيادة الدولة التي تخضع لها، في حين أن إصدار عملة البتكوين الافتراضية  تتطلب برامجَ خاصة لعملية إصدارها، وتتم هذه للعامة عبر أجهزة الحاسب الآلي المرتبطة بشبكة الإنترنت، وتتم عملية الإصدار بحلّ مسائلَ معقدة لا يستطيع العقل البشري حلها إلا بواسطة أجهزة الحاسب، وكلما كانت الأخيرة ذات كفاءة عالية زادت عملية التعدين وحصول المعدن على عدد من عملات البتكوين التي يتم تخزينها في محفظة إلكترونية خاصة بالمعدن. 
 
*ضوابط الإصدار حيث تعد عملة البتكوين عملة غيرَ نظامية، أي لا يتم إصدارها من قَبل الجهات الرسمية كالبنوك المركزية.
 
2- الطبيعة القانونية للعملات الإفتراضية: 
أحدثت العملات الرقمية اختلافا حول مدى اعتبار العملات الرقمية شكلا جديدا من أشكال النقود قانونيا من عدمه وقد اتخذ فقهاء القانون حول العالم عديد الأراء فيما يلي حوصلة لأهمها:
 
الرأي الأول:  يعتبر أن العملات الرقمية هي إحدى أشكال النقود القانونية.
الرأي الثاني: يعتبر أن النقود الرقمية تعد صورة غير مادية للنقود التقليدية، فإصدار العملات الإلكترونية يتم من خلال تحويل شكل النقود من الصيغة الورقية إلى الصيغة الإلكترونية فهي إحلال شكل النقود محل شكل آخر.
الرأي الثالث: يرى أن العملات الإفتراضية هي أداة إئتمان وطبقا لهذا الرأي فإن العملات الإلكترونيةَ – التي هي عبارة عن الرصيد النقدي المسجل إلكترونيا على بطاقة مختزنة القيمة- تعد ائتمانا، لأن هذا الرصيد يعد نوعا من الديون بالنسبة  لمصدرها. ويتمثل الالتزام القانوني لمصدر البطاقة في مواجهة حاملها في الوحدات النقدية والرقمية الإلكترونية المسجلة على البطاقة، ويتشابه ذلك مع حقيقة أن الالتزامَ القانوني للحكومة حيال الحائز.
 
الرأي الرابع: النقود الرقمية تعد شكلا جديدًا من أشكال النقود إذا توافرت ضوابط معينة حيث يذهب هذا الرأي إلى الضوابط المالية الخاصة بالنقود القانونية المتداولة بين العامة، فيشترط بعض الشروط والمتمثلة في أنه حتى يصبح الشيء نقودا يجب أن يكون قابلا للقياس والقبول العام كوسيط للتبادل ووسيلة للدفع وأداة لإبراء الذمة، دون وجود مانع يمنعها من القيام بدورها، وعليه تعد النقود الرقمية -وَ فق هذا الرأي- شكلا جديدا من أشكال النقود متى توافرت الضوابط التي تم ذكرها. 
وعموما أمام هذا الإختلاف في الأراء حول الطبيعة القانونية للعملات الإفتراضية، تبقى بعض الدول التي لم تحين قوانينها ولم تواكب التطورات العالمية متخوفة من إدخال هذا الصنف من العملات الرقمية إلى نظمها القانونية ومنها المشرع التونسي الذي سنبين موقفه من العملات الرقمية.
 
3- موقف المشرع التونسي من العملات الإفتراضية:
بالبحث في النصوص القانونية التونسية وتحديدًا في مجلة الصرف والتجارة الخارجية لسنة 1976 يتبين ما يلي:
 
حيث تحدد بمقتضى الفصل الاولى والثاني العمليات الحرة التي يمكن من خلالها تصدير رؤوس الأموال وفوضت للبنك المركزي اختصاص انجاز هذه العمليات أو بتفويض منه لوسطاء مقبولين.
 
كماجاء الفصل السادس ليلزم الاشخاص الطبيعيين والمعنويين في تونس بايداع  أوراق نقدية اجنبية ومن كل ماهو محرر بنقد اجنبي من شيكات ورسائل اعتمادات نقدية وكمبيالات وسندات تجارية وكل رسوم ديون اخرى لدى وسيط مقبول.
 
كما بالفصل 21 من نفس المجلة ان الدفوعات بين المقيمين يجب انجازها في البلاد التونسية الا اذا رخص البنك المركزي التونسي خلاف ذلك، مما يعني انه لا يمكن الدفع الا بالعملة التونسية. 
 
بمعنى أنه لا يمكن للتونسيين بمقتضى القوانين المنظمة للصرف امتلاك أو التعامل بالعملات الإفتراضية. 
 
وعمومًا فإن مخالفة جميع أحكام مجلة التصرف قد ينجر عنها تتبعات جزائية وعقوبات سالبة للحرية، كما أن القضاء التونسي يعتبر أن التعامل بالعملات الإفتراضية يعد من جرائم تبييض الأموال، وذلك في تأويل واسع للنصوص الجزائية التي لم تتحدث مطلقًا عن العملات المشفرة والإفتراضية كـ"البتكوين"
 
وأمام هذا الفراغ التشريعي الذي لم يواكب التطور العالمي لابد من تدخل سريع للمشرع التونسي لتأطير العملات الإفتراضية قانونيًا واقتصاديًا.
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.