نشر الكاتب والصحفي الصافي سعيد على صفحته الرسمية على الفايسبوك، اليوم الخميس 18 فيفري 2016، مقالا رثا فيه الكاتب والصحفي المصري الراحل محمد حسنين هيكل.
وفي ما يلي نص المقال كاملا:
"ودع الكاتب والصحفي الكبير محمد حسنين هيكل، عالمه العربي في حالة يتم وإحباط.
وبوداعه أشعر من ناحيتي أن العالم العربي قد فقد فعلا أحد أهراماته السياسية والصحفية. عاش هيكل بين لحظتين تاريخيتين على قدر كبير من المفارقة.
ولد هيكل مع عالم عربي كان يريد أن يمتلك القوة والإرادة. ثم ها هو يختفي مع ضمور وانهيار ذلك العالم الذي لم تعرف نخبه أن تحميه وتصونه.
وعلى مدى ستين عاما لم يغادر هيكل، هيكل الصحافة. بدا مشواره مع الحرب العالمية الثانية ثم تدرج نحو ميادين أخرى بعيدة ومعقدة. تعرف على عبد الناصر في حرب فلسطين على الجبهة فظل لصيقا ووفيا له حتى آخر أنفاسه. وفيما كانت خطابات ناصر تهز أركان الشرق العربي ،كانت مقالات هيكل تحلل وتشرح للعالم ما يحدث في ذلك الشرق المعقد والمتشابك..
دافع هيكل عن تحرر إفريقيا والاشتراكية وثورة الجزائر والثورة الكوبية والمقاومة الفلسطينية وكتلة عدم الانحياز والعالم الثالث وكذلك عن الثورة الإيرانية ورأى فيها دعما للأمة العربية.
قرأت له صغيرا، ثم حضرت له بعض المحاضرات في معهد الصحافة في الجزائر. ثم التقيت به في أكثر من مكان. في بيروت بصحيفة "السفير"، حيث كنت اشتغل، وحيث كان ينشر مقالاته وكتبه في عهد السادات. كذلك في باريس خلال بعض زياراته. وأخيرا في القاهرة.
قبل الانتخابات الرئاسية، وبالتحديد في أكتوبر 2014 زرته في مكتبه بشارع النيل وقدمت له كتابي: "المعادلة التونسية – رؤية 25/30"، ثم طلبت منه أن يمدني ببعض النصائح لخوض هذه المعركة الانتخابية. قلّب الكتاب بين يديه وأبدى إعجابه بالطباعة والإخراج ثم وضعه جانبا بعد أن وعدني بقراءته ثم جاء صوته هادئا ومغنما: إذن أنت تريد نصائح لكي تصبح رئيساً، ولكني أنا في حاجة لكي أعرف الشيخ الغنوشي. هل بإمكانك أن ترسم لي بورتريه سريعا لهذا الرجل؟
استمع إلي بكل انتباه وكان في كامل أناقته ولياقته الذهنية ثم عاد يسألني عن أدق التفاصيل. بعد ذلك انتقل بي إلى الحديث عن بورقيبة الذي عرفه منذ الأربعينات. قال انه يحترمه جيدا بالرغم من خلافه مع عبد الناصر. قال لي أيضا انه استمتع بقراءة كتابي: "بورقيبة / سيرة شبه محرمة"، وقد حرص على جلبه من بيروت حين قرأ عنه في الأهرام. ثم راح يروي لي التالي حين قرّر بورقيبة مغادرة القاهرة في الخمسين، جمعت له مبلغا من المال من بعض الأصدقاء المشتركين لتسديد ديونه. كان المبلغ 10 جنيهات. وخلال زيارة عبد الناصر لتونس في العام 1962 لمحني بورقيبة على طاولة العشاء فناداني لأقترب منه ثم قال لي مازحا أمام عبد الناصر: "اسمع يا هيكل ،أعرف أنك ربما لم تنس جنيهاتك، ولكني لن أرجعها لك حتى لا يتهمك عبد الناصر بالعمالة لبورقيبة". آنذاك تلقف عبد الناصر الحديث وعلق قائلا: "ربما كانت جنيهات هيكل فالا حسنا. أنا أيضا كان لقائي به فالا حسنا لي". أكمل هيكل حديثه قائلا: "بورقيبة كان صاحب نكته وكان صديقا للصحافيين في مصر. وبهذه المناسبة وأنت عازم على خوض الانتخابات، فإني سأمنحك عشرة جنيهات عسى أن تصبح رئيساً".
وعند الباب وهو يودعني بحث هيكل عن ورقة بعشرة جنيهات في كل جيوبه. فلم يعثر عليها. فأصر أن يضع في جيبي ورقة بقيمة مئة جنيه رغم ممانعتي الشديدة. وتلك هي إحدى صفات هيكل الإنسان: رجل بشوش، منفتح، قروي نبيل، دافئ ومتدفق العواطف. لم يكن مجرد صحفي يغطي الحدث وإنما كان يصنع الحدث ويصنع معه رأيا عاما. ولم يكن غاويا للسلطة وإنما كان سلطة فوق كل السلطات. ولم يكن ممتلئا بمصريته فقط بل كان عربيا ممتلئا بعروبته.
كان هيكل قصير القامة، ولكن قلمه كان طويلا وكذلك لسانه وسيغاره. لقد حافظ هيكل إلى آخر يوم في حياته على كياسته ودماثته ومبادئه ولقبه: الكاتب والصحفي والأستاذ .. وداعا أيها الأستاذ.."