20
يسرى الشيخاوي-
لا أحد يمكنه أن يخبر من أين تستمد أم ثكلى أنفاسها لتواصل حياتها كأن شيئا لم يكن، بل تبتلع نبأ استشهاد ابنها وتؤويه في أحشائها ليظل سرا مدفوناً بين القلب والروح طيلة أربعة عشر عاما.
هي قصة حقيقية عن عملية استشهادية في بوابة القدس الشرقية أتاها شاب في ربيع العمر، شاب رأى في موته الذي سيفجر به أجساد ثلاثة عشر جنديا إسرائيليا المعنى الحق للحياة.
مشاهد مستوحاة من الواقع يرويها فيلم "السر المدفون"، تثير تفاصيلها الذاكرة فتحملك إلى سنة الالفين حينما تحرّر جنوب لبنان وتخففت أم من سر تخر له الجبال ساجدة لكنها كتمته وكانت معه صرخة الوداع الأخير.
وقبل أن تهب رياح الحرية على لبنان، كانت قرية دبين "لعبة" يتسلى بها الكيان الصهيوني ويمعن في تعذيب سكانها حتى يقتلعوا منهم اعترافات عن "أبو زينب" الذي يحمل أهل القرية ذكراه في قلوبهم وفي صورة شتلة زيتون تزين منازلهم.
في الواقع لا يعلم حقيقة هوية "أبو زينب" سوى عناصر المقاومة بمن فيهم شقيقه وأمه وشقيقته فيما صدّق الآخرون رواية الأم بأنه سافر إلى الكويت مستجيرا بها من الحرب.
وانت تتفحص مشاهد الفيلم التي تبدو واقعية جدا وكأنك تعيش سنوات الحرب في لبنان وقتها، تتساءل عن شعور الأم التي باركت عملية استشهاد ابنها ووهبته فداء للوطن وشرقت بدمعها وهي تودّع ابنها مبتسمة.
ومنذ أن كانت العملية الاستشهادية فكرة إلى أن صارت حقيقة كان الشهيد عامر كلاكش مبتسما يعانق الأفق بنظراته حتّى حيّر كل من حوله وهو الذي أبى أن يعود إلى الوراء وكانت الشهادة في سبيل الوطن عين الحياة في نظره.
وقبل اليوم الموعود يخط الشهيد رسائل لعائلته عن مستقبله ومستقبلهم وعن الحياة في أرض محتلة، وتنصت الأم إلى كلماته ولا تبوح بالسر لأخواته الثلاثة ولأخيه الذي قدم من بلغاريا ليحيا في قريته بسلام.
ولكن هوس المحتل بالكشف عن "ابو زينب" الساكن في كل نفس وفي كل زاوية من القرية كانت أقوى من رغبة "عادل" العائد من المهجر، ولم يعانق بعض معاني الحياة إلا حينما التحق بالمقاومة وكان وقوفه وجها لوجه مع حقيقة "ابو زينب" الذي سئل عنه عند حاجز التفتيش دون أن يعلم أنه شقيقه عامر.
بعد عملية أخرى أربكت الكيان المحتل، عملية قادها عادل ليسير على خطى شقيقيه الشهيد والأسير، وهبت عائلة كلاكش نفسا ثانية فداء للوطن هي "نوال" شقيقة "أبو زينب" الحاملة لسره إلى قبرها.
أسر وقتل وتنكيل وتعذيب من أجل الوصول إلى هوية "ابو زينب" يقابله إصرار على حجب السر المدفون في القلوب، وفيما عسكري يتظاهر بالولاء إلى الصهاينة والحال أنه منخرط في المقاومة يزف نبأ نجاح "عادل" في مهمته إلى شقيقه الأسير ترصده الأعين الرقيبة.
وفي جنازة"نوال" كانت لحظة القبض على "عادل" وهاهي الأم الثكلى للمرة الثانية على التوالي تسلم ابنا ثانيا الى الأسر ولسان حالها يقول "البلد اكبر منا جميعا".
في معتقل الخيام يلتقي الشقيقان عند عتبة الأسر ويتقاسمان الذكريات مع شقيقهما الشهيد ويتحديان القضبان في السجن الانفرادي وتتحد اياديهما ويتسلحان بالأمل في أن يتحرر الجنوب.
وعلى إيقاع الذكريات، ترقص كلمات المقاوم الذي منحته الظروف فرصة ليكون آخر من تشبّع برؤية الشهيد قبل أن ينسف معسكر الصهاينة وزاده حب الوطن وشتلات زيتون.
والفيلم المشحون بمعاني المقاومة والتضحية مراوحة بين أزمنة مختلفة إذ ينطلق من التخطيط إلى العملية الاستشهادية ليعود إلى ما بعد تصاعد خيوط النار والدخان إيذانا ىالفلاح.
وبين وقع المطرقة تهوي بها الأم على قطع اللحم لتفرمها ودوي انفجار السيارة تتجلى ملامح إيثار الوطن على النفس ويبكي قلب الام ولا تتوقف عن دق اللحم ولا تهون عهدها لابنها.
وتقنية "الفلاش باك" تقحمك في تفاصيل الحرب في جنوب لبنان وفي تفاصيل المقاومة، وفي تفاصيل الوجع حينما يتوشح بالامل، تفاصيل تنسج ملامح قصة بحبكة درامية تخاطب عاطفتك وتستمر دمعك.
وان كان الفيلم في بعض الأحيان يسير في نسق خطي إلا أن كشف سر "أبو زينب" على دفعات كان عنوانا للتشويق حتى انكشاف "السر المدفون" على إيقاع الفرح والزغاريد، والأداء في الفيلم عنصر قوة إذ صور الممثلون الجلد والإيثار والتضحية وحتى نذالة العملاء وسط مشاهد تلامس الحقيقة.
ورغم ان الفيلم موجّه سياسيا، إلا أن الغلبة كانت للسيناريو المحبوك والأداء المقنع للممثلين وصدق كاميرا المخرج، وحسن اختيار اللقطات التي تلعب على في مجملها على أوتار العاطفة.