13
يسرى الشيخاوي-
بعد شهر من العزلة كان لزاما علي أن أعانق الشارع من جديد لأمر لا يمكن تأجيله، وفي نفسي يتلبّس الخوف بالنشوة، خوف من سبيل نسيتُ تفاصيلها ونشوة بالمضي إلى فضاء أرحب من غرفتي التي صارت عالمي الأوحد.
ما أشبه ما اعتمر صدري بإحساس عصفور يغادر القفص ولكن عيناه ترتطمان ببندقية صيّاد، الحجر الصحي موجع في بعض جوانبه، يخنقني يحد من حرّيتي ويكتم أنفاس التمرّد فيّ، ولكنّ إحساسي بأنّي أواجه عدوّا غير مرئي أشد وجعا..
أفتح باب منزلنا كانني سجينة أطلقوا سراحها ليلة عيد ولكنها بلا اهل وبلا مأوى ولا تدري الى أين المسير، أطبق الباب من خلفي يتردد صدى صريره واجول براسي بين العابرين المارين على ناظري ..
كانت خطواتي الاولى من العتبة الى الشارع شبيهة بعهدي الأول بالمشي، يبدو ان قدماي لا تستوعبان كل الافكار والمخاوف التي تتزاحم في راسي، ولم يستغرق الأمر كثيرا لأرتّب خطواتي التي تبعثرت على ايقاع مشاهد كسر الحجر الصحّي.
اكاد التصق بالحائط وأنا أمشي خشية مجاوزة حدود الأمان ان اعترضني أحد الجيران في حينا وجفوني ترقص على إيقاع الشمس وعينايا لا مغمضتان ولا مفتوحتان، لم ار كل هذا الضياء منذ مدة ولم أنم جيّدا.
"كل من يعترضني حامل للفيروس" كنت أحدثني حتى أسد كل المنافذ امام الاستهتار أو إغفال بعض التفاصيل التي قد تكلفني ثمنا باهضا وأنا أعلم بان مناعتي لن تقاوم كورونا كما لم تقاوم نفسي كل التهاون الذي لحظته في حيّنا(حي الجمهورية/ المنيهلة)..
رموشي تتأرجح وأنا ألاحق صدى أفكاري وعينايا مثقلتان بالنوم والوجع، ولكن حدقتيهما تتسعان كلما رأيت تجمعا لعدد من الافراد دون إجراءات وقاية ولا مسافة امان، الحركية عادية في حيّنا حتّى أنني تساءلتُ في سري " كم لبثنا في الحجر".
جماعات وفرادى يوشحون الأنهج والأزقة المتفرعة عن حيّنا، يستوقف بعضهم البعض ويتبادلون التحايا يمدون أياديهم لبعضهم البعض وبعضهم الآخر يتبادلون القبل، وأطفال مجتمعون إثنان منهما يتشاجران من أجل كرة ويتشابكان بالأيادي.
لحظات من العراك لم تنته إلا بتدخل مارّ أعاد السكينة إلى الطفلين وطلبا منهما أن يقبّلا بعضهما، قبلات زمن الكورونا، كل هذه المشاهد التقطتها عيني وأنا لم أسر إلا خطوات بعيدا عن المنزل، مشاهد جعلتني أتساءل عن معنى الحجر الصحّي الشامل..
وأمام محلّات بيع البقالة والمواد الغذائية و الخضر والغلال واللحوم البيضاء، يتزاحم سكّان الحي وتختال الكورونا بين أنفاسهم مرحا، وأتصفّح الوجوه لعل النظرات توقظني من وجومي وألملم شتاتي وأتقدّم نحو تجمّع لمحتُ فيه جارتنا وطلبتُ بكل لطف ان تكون أشد حذرا فكان أن علت قهقة الكل وكأني رميتهم بطرفة..
ردّ فعل جارتنا ومن معها أذاني وانسحبتُ وأنا أرسم على شفتي ابتسامة بلهاء وأتمتم بكلمات لم تلتقطها أذني فصوت الجمع وهم يتندّرون من نصيحتي كان أقوى من صوتي المثقل بالوجع، واصلتٌ طريقي وأنا أعض على شفتيّ.
كنتُ أغرز أسناني في شفتي، وأتلذّذ الألم لأنه الحل الوحيد حتّى لا أقطع حديث الجموع بكلام خال من أي معنى وأغمض عيني على المشاهد المبكية وأحافظ على الأمل داخلي، أمل في تجاوز مرحلة الوباء بأخف الاضرار..
وفي طريقي إلى حي الانطلاقة سيل الاستهتار لا يتوقف، رجال طاعنون في السن يجتمعون أمام محل معد لاصلاح السيارات ويلعبون الورق، وإمرأة تجوب الشارع ورضيعتها بين يديها دون حماية، وجمع من النسوة تخال انهن يسحبن الأوكسجين من وجوه بعضهن البعض..
وعلى جنبات الطريق المؤدّية إلى حي الانطلاقة، تصطف عربات لبيع "الجلبانة" و"القنارية" ويتراص عليها مواطنون وحسبهم أنّ البائع يرشّها بسائل "الجافال"، وأمام المغازة العامة شحّ ريق متطوّعة وهي تقنع المواطنين أن يلتزموا بمسافات الأمان في الطابور.
حين تحضر المتطوّعة، يستقيم الكل ويلبّون طلبها بالتباعد وما إن تدير ظهرها إلى جهة أخرى حتّى يختزل البعض المسافات ليتبادلوا أطراف الحديث ويحدث أن يرفعوا كماماتهم ليحسنوا الحديث دون أن تصطدم أفواههم بقطعة القماش.
وفي الضفة المقابلة، تعج السوق بمواطنين، في مشهد استفزّني ولم اكتف بما شاهدت عن بعد بل قطعت الطريق وتاهت نظراتي وسط الزحام، ولولا الكمامات التي يرتديها البعض لآمنتُ أنه يوم من أيام ما قبل الكورونا، الحرفاء يمررون أياديهم على الخضر يتحسسونها وآخرون منغمسون في فرز الملابس المستعملة، حينها فقط تعزّزت قناعتي بأن "الفريب " قطاع حيوي.
ساعة واحدة من الزمن كانت كفيلة بأن تثير مخاوفي من القادم في ظل استهتار بعض المواطنين، ولكن إذا ما رأيت كرنفال تدشين وحدة كوفيد 19 من قبل وزير الصحة بمستشفى سهلول وجولات رئيس الجمهورية في القيروان لا أملك إلا ان أقول "إذا رأيت ربّ البيت بالدفّ ضاربا لا تلومن الصبية على الرقص"..
في طريق العودة إلى البيت، تساءلتُ عن معنى الحجر الصحّي في دولة تحاصرها الأيادي المرتعشة وعن وجع الإنسان الملتزم بالحجر الصحّي وهو يلحظ استهتار انسان آخر بهذا الإجراء، ولعنتُ الكورونا كثيرا لأنني لن أرتمي في حضن أمي وأخبرها أن الحجر كذبتنا الصادقة كما أخبرتها ذات وجع أن " الحب كذبتنا الصادقة".