نساء الشمال الغربي.. سيدات الاقتصاد التضامني

 عبد السلام الهرشي –

قبل أيام وصلتني دعوة عبر البريدي الإلكتروني لحضور دورة تدريبية حول الإقتصاد التضامني و الإجتماعي، نوع مبتكر من الاقتصاد تناهى إلى سمعي عديد المرات لكن لم أحض بمناسبة لدراستة وإكتشافه جيدا.

لم أهتم كثيرا بموضوع الدورة ولكنني سعدت عندما اكتشفت أن مكان الدورة هو مدينة طبرقة الساحرة، مدينة جميلة تقع على شاطئ تونس الشمالي لم تحض باهتمام كبير من قبل السلطات لكن سكانها تمكنوا من خلق مزيج جميل في منوالها التنموي يتكون من السياحة والفلاحة والصيد البحري إضافة إلى السياحة الإيكولوجية التي تعتمد على نسيج غابي زاد جبالها و هضابها رونقا جميلا.

سعدت أيضا عندما اكتشتف أن الدورة تتضمن زيارات إلى مدن فرنانة وعين دراهم. لا يهتم غالبية المشاركين في الدورات التدريبية بمضمونها، فهي كما يقولون مملة لكن الأهم ما يرافق تلك الدورات من زيارات ميدانية وربط علاقات وتكوين صداقات جديدة.

الاقتصاد التضامني وبداية الرحلة

وصلنا إلى الفندق وقد بدا التعب على وجوهنا، تناولنا طعام الغداء وتنقلنا بسرعة إلى قاعة فسيحة حيث كان ينتظرنا مجموعة من المدربين. كان الجو في البداية مملا بعض الشيء إلى أن بدأ المكون يفسر الإقتصاد التضامني على أنه جزء من الذاكرة الشعبية للتونسيين، ثم بدأ بتعداد أشكال الإقتصاد التضامني التي كان يمارسها التونسيون، تحدث عن "اللمة" و"العرافة" وصولا إلى "التويزة".

نعم انا أعرف "التويزة" جيدا، كانت أمي في ما مضى تستدعي مجموعة من النسوة لمساعدتها على تحضير كميات الكسكي أو ما يعرف في تونس بالعولة، الذي سيكفينا لعام كامل ثم بعد ذلك تذهب لمساعدتهن واحدة تلوى الأخرى. بدأ الجميع يهتم بهذا النوع الجديد من الإقتصاد بعدما لامس جزءا من ذاكراتهم بل إن بعض المشاركين دخلوا في نقاشات مطولة مع المكونين من أجل فهم بعض التفاصيل في كيفية إقتسام الأرباح.

في اليوم الموالي إنطلقنا لمعاينة أحد المشاريع بمنطقة ببوش التابعة لمعتمدية عين دراهم، قرية صغيرة تقع على سفح جبلي مغطى بأشجار الزان والفلين والبلوط. إستقبلتنا السيدة نورة النويوي، سيدة تقارب الأربعينات من العمر، تمتلك قدرة بيداغوجية غريبة على تفسير أفكارها، ونطقها الجميل لبعض الكلمات الفرنسية التي تتخلل حديثها زاد من رفعتها.

أفكار خلاقة

تدير السيدة نورة مشروعا كبيرا ينضوي تحته 4 مشاريع صغيرة تتمثل في وحدة لتربية الماعز، ووحدة لإنتاج الجبن الفاخر، ووحدة لتحضير المشاتل الصغيرة وأخيرا وحدة لإنتاج الدقيق الخالي من الغلوتين.

ويعتبر الدقيق الخالي من الغلوتين إكتشافا تونسيا من قبل فريق لإحدى الجامعات الخاصة ويتكون من ثمرة البلوط التي لطالما إعتبرها التونسيون بلا فائدة، وهو يساعد الأشخاص الذي يعانون من حساسية  بسبب الغلوتين.

حضيت السيدة نورة بزيارة عدة سفراء لدول أجنبية، في المقابل راسلت معتمد الجهة لمرات عديدة لكنها لم تحض برد. تحدثت نورة بنبرة عاشقة للمشروع ولمنقطة ببوش قائلة: "حبي لمنطقة ببوش هو الذي دفعني إلى التمسك بهذا المشروع كما أن النقطة المضيئة في هذا المشروع أنه يعتمد إعتمادا كليا على النساء". 

توجهنا في اليوم التالي إلى مدينة تاجروين غرب ولاية الكاف لنكتشف مفاجأة أخرى تتعلق بأوّل شركة تعاونيّة للخدمات لفائدة الحرفيات النّاشطات في مجال صناعة الصّوف ونسيجه.

السيدة فضيلة الشارني رئيسة جمعية حرفيات تاجروين قالت إنّ هذه الشركة التّعاونيّة ستعنى بتقديم الخدمات لفائدة 20 حرفية في مجال النّسيج الصوفي وكذلك لفائدة أكثر من 150 فلاحا منتجا لمادة الصوف بما سيجعل هذه الشّركة تسهم في تثمين إنتاج الصّوف بالجهة وخلق موارد إضافيّة للحرفيات والفلاّحين على حدّ السواء، إلى جانب خلق مواطن شغل جديدة.

ويستهدف المشروع تشغيل شريحة من الشابات ممن لم يحالفهن الحظ في الدراسة ولم يخضعن لتكوين ما، والتي تعتبر من أكثر الشرائح التي تجد صعوبة في إيجاد عمل.

ويندرج هذا المشروع في إطار مشروع تطوير الاقتصاد الاجتماعي الذي سيتم تطويره ليشمل العديد من الفلاّحين المتواجدين في الجهة، خاصة وأنّه تم، وفق ما ذكره المنسّق الجهوي للمشروع فخرالدين المهذبي، إنجاز مشاريع مماثلة في مدن أخرى بالولاية في مجالات تهمّ الصّناعات التّقليديّة.

كما حالفنا الحظ خلال زيارتنا إلى مدينة تستور في التعرف على السيدة هاجر فرهود ومشروع "بلوريال" وجمعية تونسيات التي تهدف إلى تعزيز مكانة المرأة الريفية ومساعهدتها على الدخول إلى سوق الشغل من خلال نشر ثقافة الإقتصاد التضامني والإجتماعي كما تدافع الجمعية بقوة على ضاهرة التمكين الإقتصادي للمرأة الريفية.

وتنضوي جميع هذه المشاريع في إطار الإقتصاد التضامني والإجتماعي، كنوع من الإقتصاد الذي يجمع بين إيجابيات القطاع الخاص كحرية المبادرة والإبتكار، مع المحافظة على الطابع الإجتماعي للقطاع العام.

والإقتصاد التضامني والإجتماعي هو مجموعة من الهياكل والتنظيمات التي تنظم في شكل تعاضديات أو تعاونيات أو وداديات أو جمعيات أو مؤسسات تقوم في تسييرها الداخلي وأنشطتها، على مبدإ التضامن والمنفعة الإجتماعية، كما تعتمد هذه الشركات على أساليب الإدارة الديمقراطية والتشاركية.

تونس والاقتصاد التضامني

ورغم أهمية الأقتصاد التضامني والإجتماعي في حل الكثير من المشاكل التي تعترض الفلاحين خاصة، إلا أنه لا يزال مفهمومه غير منتشر في تونس فهو لا يساهم سوى بـ01 بالمائة في النااتج الداخلي مقارنة بفرنسا الذي تطور الإقتصاد التضامني والإجتماعي فيها ليساهم بأكثر من 10 بالمائة من ناتجها الداخلي الخام.

في طريق العودة إلى تونس مررنا بالكاف أو "سيكا فينيريا" كما كان يسميها اللاتينيون لتناول طعام الغداء، تنلقنا إلى مطعم منزلي (مفهوم جديد للمطاعم بدأ ينتشر في تونس) هو عبارة عن بيت صغير وجميل في أحد الأزقة العتيقة لمدينة الكاف، أدخلت عليه السيدة فاطمة بعض التحسينات وخلقت له طابعا تونسيا خالصا من التحف التي تحتويه إلى الفوانيس التي تضيء المكان إلى الزخارف التي تزين صحون الأكل.

هو ليس مطعما بدوام كامل ولكنه يفتح أبوابه لمن يقومون بحجز مسبق ولعدد محدد. وتقول صاحبته إنها افتتحت هذا المشروع لشغفها الكبير بصنع أطباق الأكل، لكنها اليوم تشعر بسعادة كبيرة لأن ما تقدمه دائما ما ينال إستحسان الزوار.

استطاعت نورة وفضيلة وهاجر وأيضا فاطمة، رغم التحديات، ليس فقط بعث مشاريعهن بل خلق فرص عمل لنساء أخريات وذلك تحت إطار الإقتصاد التضامني والإجتماعي الذي يعتبر حلا جيدا ومجديا لكثير من المشاكل التي تعترض الفلاحين.

وإلى جانب هؤلاء هناك الكثير من النساء ممن يمتلكن القوة والإصرار والأفكار المبدعة لبعث مشاريعهن. وبذلك يبقى على الدولة إيلاء هذا النوع من الإقتصاد الأولوية اللازمة، إذ يعتبر حلا لجزء ولو صغير من مشاكل القطاع الفلاحي والمناطق الداخلية.

آخر الأخبار

الأكثر قراءة

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.