اعترافا بقيمتها وتفرّدها: “المُشْطِيَّة الجبنيانية” تنضاف إلى قائمة التراث الثقافي اللاّمادي الوطني (صور)

دنيا الزغيدي –

تُدندن “يا وليدي ميميتك تستنى.. دزّ الباب وهلّ عليّا قرّب منّي وإيجا ادنّى”، وتتمايل بين أصابعها “خيوط الطعمة” المستخلصة من الصوف الأبيض، بمهارة وسرعة من تربّع على عرش المهنة منذ سنين، تحوّل بمهارة وإتقان ملفت خيوطا متناثرة إلى قطعة نسيج فريدة متناسقة الألوان.

هكذا يكون يومها، هي إحدى عاملات النسيج بمنطقة جبنيانة من ولاية صفاقس، تشبّعت بحرفية المهنة أمّا عن جدّة لتتناقل الأجيال تراث مدينة طالما اشتهرت بنسيجها وخاصة “المُشطية الجبنيانية” المتفردة عن غيرها من المنسوجات الوطنية.

و”المشطيّة” هي غطاء للرأس من النسيج تتزيّن به العروس وتستعمله غطاءً للرأس يوميا، وهي بيضاء اللون ومصنوعة من الصّوف، ثم أضيف إلى صنعها لاحقا اللون الأحمر، وقد ساعد استخدام “الكتّان” على تطوير صناعة “المُشطيّة” وعلى إضفاء عديد الاختيارات في الألوان، إذ لم يعد هذا المنسوج حكرا على اللون الأبيض أو الأحمر.

ولحياكة “المشطية” تحتاج جملة من الأدوات والمعّدات المستعملة في عمليّة النسيج كـ”القرداش” و”المغزل” و”المنسج” و”الخلال” بالإضافة إلى “خيوط الطعمة” كمادّة مستخلصة من الصوف الأبيض الناصع.

ومع تطوّر نمط حياة المجتمع التونسي عموما أخذت المشطية استخدامات متنوعة حيث عمدت الحرفيات بالجهة واللائي يناهز عددهن 600 حرفية، إلى تطويعها لمجالات استخدام عديدة كتزيين جدران البيوت وتغليف مقاعد قاعات الجلوس وفراش الأرضية وصنع حقائب النساء.

واعترافا بقيمة وأهمية “المشطيّة الجبنيانية”، أعلن المعهد الوطني للتراث خلال شهر فيفري الفارط، عن تسجيلها في التراث الثقافي اللامادي الوطني، بعد أن انطلق في جوان 2017 في إنجاز بحث ميداني بمنطقة جبنيانة من ولاية صفاقس.

وتعتبر مدينة “جبنيانة” عريقة في التاريخ إذ تعود إلى الحقبة الرومانية وربما تكون أقدم من ذلك، وكانت تسمى “كبليانة” فحرفت الكلمة إلى جبنيانة لسلاستها على اللسان العربي الأصل وكانت عامرة بالسكان عند قدوم العرب الفاتحين.

وفي العهد الأغلبي اعتنى العرب بالبلدة لموقعها وسط أراضي فلاحية خصبة فامتلكوا فيه الأراضي وقام علي بن سالم البكري بتأسيس جبنيانة العربية وأصبحت أهم مدينة جنوب منطقة الساحل قبل بناء صفاقس وعاصمة لسهل صفاقس، وعرفت ازدهارا في القرنين الثالث والرابع هجري وكانت بها ضيعات شاسعة ومنازل فاخرة ومحاطة بمدن عديدة مثل أسباط وبليانة وقصر زياد وبطرية والتي اندثرت كلها حاليا.

وعرفت جبنيانة شهرتها مع الولي الصالح أبي اسحاق الجبنياني وهو حفيد علي بن سالم البكريولد بالقيروان سنة 892م، وبعد أخذه العلم من غيره من شيوخ عصره الكبار، اختار العيش في مدينة جده منصرفا في نشر علمه يقصده الناس لتعلم المذهب المالكي أيام الدولة الفاطمية الشيعية إلى أن توفي سنة 980م، وبنيت له زاويته الشهيرة، وقد سأله ابنه الطاهر عن سبب عيشه في جبنيانة فقال:”لقد أردت أن يخلد الله لها ذكرى لأني رأيتها أقل القرى ذكرى وشهرة”.

وبقيت جبنيانة تعتمد على الفلاحة خاصة الأشجار المثمرة كاللوز والتين والزيتون التي كانت أغلبها تعود إلى وقف الولي أبي اسحاق إلى جانب ما يدفعه السكان من ثلث المنتوج إلى الزاوية كما اعتمدت على حرفة النسيج التي تختص بها النسوة.

وفي العهد الوسيط استقرت قبائل المثاليث هلالية الأصل في الساحل وحول جبنيانة، كما استقرت عديد عائلات المثاليث في البلدة واندمجوا بمرور الوقت مع السكان الأصليين لجبنيانة، لتتحول سنة 1925م الى عاصمة إدارية لعروش المثاليث وتم بناء مقر القيادة المعروف بالدريبة وأول قيادييها حسن حسني عبد الوهاب.

وفي الثلاثينيات شهدت جبنيانة توسعا عمرانيا وتكونت بها عديد المعاصر ودكاكين التجار الصفاقسيين وبنى فيها المصلح محمد العش سنة 1931م جامعا ومدرسة قرآنية.

وفي 1953م تم بناء محكمة الناحية ومقر المعتمدية وأصبحت سنة 1957م بلدية مبتدئة صفحة جديدة من تاريخها.

واليوم في جبنيانة ما تزال النساء يعتمدن بصفة كبيرة على النسيج اليدوي وباقي الأعمال اليدوية للخروج من بوتقة بطالة تضرب بلدا بأكمله خاصة وأن البدائل الاقتصادية بالمنطقة قليلة جدّا وتقتصر على العمل الفلاحي مع وجود معمل أو اثنين لا أكثر، ليبقين تراثا ضاربا في القدم بلمسة حديثة، راسخا و متناقلا من جيل إلى جيل على مرّ السنين.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.