باتت القضية الفلسطينية في هذا المنعرج الداكن متوارية عن الأنظار، ومنزوعة الأولوية والاهتمام، ومحشوّة في رفوف الماضي الآفل، ومطويّة بين تجاعيد الحاضر الراكد. وكأنّ القول المسموع سواء همسا أو إيحاء أو علنا "أيها الفلسطينيون اذهبوا أنتم وربكم فقاتلوا، إنا هاهنا قاعدون، أو منتظرون، أو متفرّجون، أو إن شئتم مستقيلون ". حتى صار الفلسطينيون محاصرين في زاوية التمطط الاستيطاني، الذي يزحف كل يوم لمزيد من اقتطاع الأراضي، وانكماش المساحات، وتمطط المعاناة، وتتالي المظالم والنكبات، والغرق في وحل الكساد السياسي، دون أن يحرّك هذا الانحصار الجغرافي للأرض والعِرض همّة الفعل العربي الرسمي، الذي ما عاد تحرّكه حالات الضياع والاندثار، ولا انهمار المظالم التي تجتاح يوميا فلسطين لتصيب الأرض والطبيعة والحجر والإنسان، فلا يثير مثل هذا الهوان أبجديات الدفاع عن الكرامة المهتوكة، ولا حتى التململ للاستنصار للشرف المستباح، والعرض المشاع.
القدس صفعة ذلّ تلاحق الأجيال
في هذه المرحلة المضطربة، التي تعاني من انحباس الاستقرار وتنامي الفوضى والانحدار، وتلوّث في بعض المفاهيم والرؤى، وانخفاض مفردات العدل والمساواة، والاختلال الصارخ بين الجهات، وتحلل المبادئ الوطنية لصالح اللهث وراء المناصب، والتهافت على المال الآسن، مقابل الصمت الآثم تجاه "غزّة" التي يدميها الحصار، وتجاه "الضفّة والقطاع"، التي تتأوّه يوميا من الخنق وتهديم المنازل وشتى أنواع القهر والحرمان، وتجاه "القدس الشريف" رمز الكرامة والإباء، الذي بات عنوانا من عناوين التدنيس والهوان، وصفعة ذلّ تلاحق الأجيال. وبدل الانتباه إلى واقع الحال. فقد غرق الخطاب الرسمي العربي في توجيه سهام العجز والفتور والسلبية والكساد، تجاه قضايا جانبية لتختزل منها القضية الفلسطينية. ممّا جعل المنطقة العربية منطقة معزولة عن القيم والمبادئ، وتأخذ شكل الإقامة االقدرية مع الفشل والهزائم، وعقد صلح دائم مع الخضوع والهوان، والاستكانة للسلبية والإحباط، التي صنعتها تلك الدول السائرة نحو الانقراض، رغم امتلاكها للمال السياسي، الذي وظفته توظيفا منفصلا عن جاذبية أحلام الشعوب وتطلعات الجماهير، في اتجاه صناعة الذعر والخوف المركّب من " الدينصور " الإيراني، وشبح "حزب الله" اللذان يسعيان حسب منطق هؤلاء إلى تفتيت العالم العربي، وتفكيك منظومة الدفاع عن الهوية والأرض وتقويض البناء. في حين ما يؤتى من أفعال من طرف هذه البلدان يفنّد مثل هذه الأقوال.
فلسطين مرفرفة بين العقول والأجساد
لعل ما يثير الانتباه، أن الشعوب العربية رغم القهر المعتق، رغم الغبن المتعدّد الأنياب، رغم البؤس المترامي الأطراف، رغم الضيم المتدحرج في الصدور والأجساد، ورغم حالات التيه والاختناق، ما تزال هذه الشعوب تتدفق أصالة ووطنية وعروبة، وما تزال "فلسطين" كامنة في الذاكرة التي تأبى الأفول والنسيان، ومتربّصة في النبض والوجدان، لم تصب بالخمول والاسترخاء. لتظل "فلسطين" الأرض والتربة والتاريخ والأجداد مرفرفة في العقول والأجساد. ولتبقى الشعوب العربية مهما وقع إقصائها من سلطة القرار، محتفظة بداخلها بالزلزال، لتنقله إلى الشوارع والقرى والمدن والأرياف لحظة الانفجار، كما كان الموقف أثناء العدوان الصهيوني على "غزة"، التي أيقظت وجدان الشعب العربي من المغرب إلى المشرق إلى حدود السودان.
العدوان لا يصدّ بالتذلل والثغاء
لقد كانت الشعوب العربية تعاني ولا تزال من واقع الإرتطام بإرهاب الرأسمالية الإعلامية، والمتأذية من تصاعد الخطاب الانهزامي، وترويح ثقافة الشعوذة والتسطيح، وكل أشكال التظليل واللامبالاة، ومع ذلك فإن هذه الشعوب المنفصلة عما يوقّع باسمها وما ينشر ويذاع ويقال، ظلت منحازة للإعلام الهارب من بيت الطاعة، الذي يرفض كل أشكال التطبيع والاستسلام، ولا يروم الهزائم والاحتلال، ويأبى وأد القضية الفلسطينية، واختزالها في غصن زيتون يعرض في المزاد. ولم يكن خافيا اصطفاف هذه الشعوب عاطفيا ومنطقيا مع "حزب الله" في حربه عام 2006 لصدّ العدوان الصهيوني على لبنان. حيث كانت هذه الجماهير منحازة تلقائيا لروح المقاومة، ومجنّدة ضدّ الاستكبار والطغيان، ومصطفة وجدانيا مع محور الفعل المقاوم، رافضة الانخراط في محور الفعل المساوم. فقد كانت هذه الشعوب محتاجة لمثل تلك الخضّة لتغيير فصيلة دمها، بعد المحاولات المتكرّرة من طرف تلك الدول المنحنية الظهر، لجعل الدم العربي محنّطا وغير قابل للتدفق في الشرايين الحمراء. فكانت حرب "حزب الله" ضد العدوان الصهيوني في الجنوب وفي البقاع، وما حققته المقاومة من تحدّ وانتصار، تعبيرا أرضيا لما تتوق له تلك الجماهير، التي تؤمن يقينا أن العدوان لا يصدّ بالشكاوى والتذلل والثغاء، وتدرك واقعيا أن المعركة الحقيقية هي توحيد الجهود، وتوجيه البنادق نحو الأعداء، ودون ذلك فهي معارك محكوم عليها مسبقا بالفشل والخسران، تحمل بين طياتها بذور التشتت والتفكك والفرقة والفناء.
حين تزدهر مواسم الإرهاب
إن ما نراه حاصلا الآن من ضغينة واحتقان، وعداوة وتوتير الأوضاع، وحالات التأهب والاستنفار، وازدهار للفكر الطائفي والقُطْرِيوالانقسام، ومحاولات لزرع الفتنة وإشعال النيران، من طرف بعض الدول الموشومة بصمتها الفاحش تجاه قضايا التحرّر والانعتاق، وأخرى منعوتة بالتواطئ والخذلان، وغيرها معروفة بالولاء والانقياد، لتتزعم معارك اصطناعية تستنزف الجهود والطاقات، تحت لافتات خطر الاصطدام بين الشيعة والسنة، التي صارت عنوانا بارزا لواقع التشظي والانقسام، لتفتيت ما بقي من تلك الأوطان. ليتفشى القتل العشوائي في كل مكان، ويسقط آلاف الأبرياء. وتزدهر مواسم الإرهاب الذي تغذيه أياد في الخفاء، وتموّله أطراف تحترف زرع الفتنة وتضخيم الأحقاد، وتبرّره فتاوى عرجاء، تسيء للمبادئ الإنسانية وقيم الأديان. لتتحرك لوبيات المال والسلاح التي من مصلحتها تأجيج الصراع، وجعل المنطقة العربية على فوهة بركان، لتسويق بضاعتها وفتح الأسواق لبيع معدّات الحروب والدمار. وبذلك تغرق المنطقة العربية في الفوضى والتقاتل والتباغض والانفلات. ويكون القاتل والمقتول من نفس فصيلة الدم والتاريخ والانتماء، ونكون من جديد أمام حروب لا تنطفىء تماما كحرب "البسوس" أو كما حروب "داعس والغبراء". ويوما بعد يوم تتعقد الأوضاع ليفترس الحقد المسلح ما بقي من تنمية وإنجاز، وتدمير ما خلفه الآباء والأجداد.
من أولى بالاتهام؟
إن كل ما نشاهده يوميا من تخريب وقتل بشع وتحريض على الانقسام، يسوّق على أنه صناعة شيعية بإمضاء "حزب الله" "وإيران". وتجنّد لهذا القول المفروم بعض الأجهزة التي تشتغل تحت جنح الظلام. لٍيصبح العدو الحقيقي "إيران"، وتصير هي سبب المآسي والخطر الذي يستدعي التجند والقتال. ويستمرّ هذا الخطاب يجتر التحريض ويلوك نفس الاتهام. تتبناه وتغذّيه بعض وسائل الإعلام، لتوجيه السيوف والرماح تجاه "حزب الله"، وتجاه "إيران" بأنهما أخطر على الأمة من إسرائيل. وأنهما أولى بالعداوة والقتال. وبذلك تتغيّر خريطة منطق الأشياء، ليسيل الدم الحلال بين الأشقّاء والجيران.. مما يدفعنا لطرح بعض الأسئلة الممتعضة ممّا آلت إليه هذه الأحوال، والمشمئزّة من تنامي الفتن وتردّي الأوضاع، دون أن يكون لنا ولاء ولا انحياز لأيّ طرف من الأطراف، سوى موضوعية الاستبيان والاستقراء..
– فهل "حزب الله وإيران" هما اللذان يمسكان "معبر رفح"، لمنع الفلسطينيين من التنقل والدواء والعلاج، والتضييق على مرور البضائع والغذاء. أم هي "أم الدنيا"، ومن ورائها دول محور المزاد، التي تتبنى أساليب الخنق والتجويع والحصار؟
– هل "إيران" هي من تعطل المصالحة الفلسطينية، والإبقاء على حالة الفرقة والانقسام، أم هي تلك الدول المتصابية ماليا التي تضخّ النقودوالنفوذ من أجل تعطيل مثل هذا المسار؟
-هل "إيران" هي سبب النكبة وسبب الاحتلال، أم أنظمة العربدة والطبل والمزمار، الذين طعنوا فلسطين في السر والعلن وفي الخفاء؟
–هل وُجِّهَتْ رصاصة واحدة من بنادق "حزب الله"، أو من صواريخ "إيران" لتصيب فلسطيني واحد، حتى يقال أن "حزب الله" "وإيران" هما من يحرّضان على التباغض والتنافر بين أبناء البلد الواحد. أم هي تلك الدول الواقعة تحت خط الديمقراطية، التي امتهنت الجمود والخمود، واحترفت السمسرة بالمواقف؟
-من كان منكّس العيون تواطئا، حين كان الموت والدمار ينهمر على المدنيين الأبرياء، وحين كان القصف يتهاطل على الأجساد والبيوت والمستشفيات والمدارس، وحين كان ذبح أطفال "غزة" يذاع وينشر على البث المباشر. هل هي "إيران" "وحزب الله"، أم أنظمة الفشلوصحافة الهزائم، أولئك "المجتهدين" في فقه تعليب همّة المواطن العربي.؟
–هل كان "حزب الله" في خطابه وأدائه ومواقفه انعزاليا، أم أنه كان شريكا مع كل شرفاء الوطن من كل الاتجاهات والألوان، للدفاع عن كرامة وتراب لبنان. وجزء من المقاومة الوطنية التي صارت صداعا في رأس الصهيونية والاحتلال، وهاجسا في أذهان المقتادين بالغالب،وأرقا في أذهان أنظمة منع الجَوَلاَنْ؟
ليكون القول في مثل هؤلاء الباحثين عن المبرّرات والأعذار، الذين يحاولون تسويق دماء الفشل والهزائم، لتوزيعه على رؤوس القبائل..هؤلاء الانهزاميين بالوراثة الذين تصحّ فيهم عبارة:
"إن الذي يولد وهو يزحف لا يستطيع أن يطير ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الطاهر العبيدي: كاتب وصحفي تونسي مقيم بفرنسا