على امتداد تاريخ دولة الاستقلال، مثّلت مدرسة الجمهورية في تونس أحد أهم المنجزات التي ساعدت البلاد على الخروج من بركة التخلّف والأميّة لدى عموم التونسيين زمن الاستعمار. لكنّ هذا المنجز عرف مدّا وجزرا وتقلبات وهزّات أودت به منذ سنوات خلت في وضع متردّ كشف ضرورة ملحة للاصلاح والتحديث حيث تراجعت جودة التعليم وقيمة المضامين ونجاعة مناهج التدريس والمسائل البيداغوجية لتنتج جيشا عرمرما من أصحاب الشهائد الذين تنسحب عليهم عبارة المتمدرسين فقط.
لقد ساهم هذا الوضع في استنهاض الهمم لمحاولات اصلاحيّة شتّى سواء في مطلع التسعينات مع الوزير الراحل محمد الشرفي ومن لفّ لفّه من مثقفين وخبراء وأهل الذكر من قطاع التعليم والتربية، أو بعده مع الوزير منصر الرويسي لادخال المدرسة التونسية في لب ّمقتضيات القرن العشرين حتّى تواكب متغيّرات العالم واستحقاقات المستقبل. بيد أنّ الحصيلة كانت دون المأمول رغم النوايا الحسنة والارادات الصادقة.
فالمؤشرات الراهنة لحال المدرسة التونسية تؤكد مجددا الحاجة الماسّة لاجراء اصلاح شامل وعميق لقطاع التربية والتعليم في تونس. فمنذ التحوّل السياسي الذي شهدته البلاد بعد 2011، كان يفترض أنّ يكون ملف الاصلاح التربوي في صدارة اهتمامات النخب والمواطنين ومكونات المجتمع المدني والطبقة السياسية.
كلّ هذا لم يتحقّق إلى حدّ الان نتيجة مخاض الانتقال الديمقراطي والعقبات الكأداء التي مرّت بها البلاد في ظلّ وضع عسير ومتشعب أجّل الحسم وتوفر الظروف المواتية للشروع في هكذا اصلاحات استراتيجية كبرى. الأخطر ممّا سبق الاشارة إليه هو أنّ الأمور اليوم صلب القطاع التربوي تكاد تنفلت من عقالها.
فقضيّة اصلاح مدرسة الجمهورية باتت ثانوية مقابل تصاعد وتيرة الأزمة بين الوزارة والوزير ناجي جلول من جهة ونقابتي التعليم الاساسي والثانوي من جهة أخرى. ان الصراع بين الطرفين اضحى شبيها بمعركة" كسر العظام" وشبح تعثّر السنة الدراسية وما سيتمخض عن ذلك من تبعات سلبية على التلاميذ والأولياء ساد أكثر فأكثر.
تساؤلات عديدة تطرح حول من يتحمّل مسؤولية هذه الأزمة الخطيرة والتي تبدو بلا حلّ قريب في الأفق، فضلا عن الأسباب الموضوعية التي جعلت كرّة الثلج تتدحرج لتكبر وتنزلق إلى حدّ التلويح بامكانية تعطيل الدروس.
كم تمنينا أن يكون جوهر الخلاف بين الطرفين هو ماهية الاصلاح التربوي لا تقنيا بل ايضا حول المضامين التي تخصّ المواد والبرامج واللغات ومكانة بعض العلوم على غرار الاجتماعية والانسانية والدينية في المقررات الرسمية وطرق التدريس وسبل مقاومة ظاهرة الانقطاع المدرسي وغيرها من الظواهر التي غزت مدراسنا. للاسف ما نيل المطالب بالتمني ولكن تُؤخذ الدنيا غلابا كما يقول أمير الشعراء أحمد شوقي.
الطرف النقابي المدعوم من المركزية النقابية للاتحاد العام التونسي للشغل يطالب باقالة الوزير ناجي جلّول كشرط لاعادة الامور الى نصابها واستئناف العمل من أجل الاصلاح التربوي الذي بات قانونه التوجيهي شبه جاهز قبل عرضه على البرلمان.
مطلب يرى فيه السواد الاعظم من فرقاء المجتمع السياسي والمهتمين بالشأن العام أحيانا في العلن وفي كثير من الحالات في السرّ موقفا تنقصه مقوّمات الوجاهة والمشروعية.
وفي خضم هذه الازمة المستعرة يتفاقم منسوب اهتزاز ثقة المواطنين عموما والأولياء بشكل خاص في المدرسة العمومية لتكون بذلك المؤسسات الخاصة التي انتشرت كالفطر في الأعوام الأخيرة أكبر مستفيد.
لاشكّ في أنّ الحلّ مازال بين يدي رئيس الحكومة يوسف الشاهد وأحزاب الائتلاف الحاكم بتمثيليتها البرلمانية الأغلبية حتّى تكون أكثر وضوحا وحسما في هذه المعضلة الخطيرة على مستقبل أبناء تونس من تلاميذ قبل فوات الاوان وجواز القول: "على الدولة ومؤسّساتها السلام".
انه لمن العبث والجرم حاضرا الابقاء على حالة الانسداد والتعطلّ في اصلاح القطاع التربوي. فهذا الوضع حتما ستكون له مضاعفات اخرى سلبية على مدرسة الجمهورية التي آن الأوان لاعلان الحداد عليها طالما أنّ البوصلة الصحيحة قد فقدت لتترك مكانا سانحا لتفشي خطابات وممارسات لاعقلانية.