أي دور للمدن المغاربية للحد من تكلفة التأخير فى البناء المغاربي ؟

 

بقلم : محجوب لطفي بلهادى

بداية أودّ أن  أشير أن المقال كان موضوع مداخلة ألقيتها موفى السنة الماضية بمناسبة ندوة إقليمية حول إشكاليات البناء المغاربى بمبادرة من بلدية تونس الكبرى، بحضور الأمين العام لاتحاد المغرب العربي وبالتعاون مع المفوضية الأوروبية.

بالفعل، فى محاولة  للإجابة عن  “أي دور للمدن المغاربية للحد من تكلفة التأخير فى البناء المغاربى ؟ ” ارتأيت من الناحية المنهجية  تبويب العنوان  إلى  ثلاث مستويات  :

  • مستوى أول يقدّم تفكيكا لعناصر التكلفة وفق مقاربة مختلفة نسبيا عن المتداول،
  • مستوى ثاني يتعلق بالدور الطلائعى التي يمكن أن تلعبه المدن المغاربية فى بناء براد يغم مغاربى جديد للتعاون،
  • ومستوى ثالث وأخير يعرض السيناريوهات المتوقعة فى المنظور القريب والمتوسط لمستقبل البناء المغاربى.

1 على مستوى التكلفة  ودون الحاجة  للخوض مجددا فى شرح الأسباب  التي حالت دون تحقيق البناء المغاربى المنشود، وخلافا للمقاربة السائدة الصادرة عن مؤسسات وطنية رسمية وغير رسمية ومنظمات إقليمية ودولية التي اختزلت تكلفة التأخير فى البناء المغاربى فى الجوانب الاقتصادية والمالية أساسا، فاني اتجه  أكثر إلى تصنيفها إلى قسمين :

تكلفة مباشرة يمكن تقديرها تتمثل فى الضرر الاقتصادي والمالي الجسيم الذي طال جميع القطاعات الاقتصادية دون استثناء من صحة وتعليم وبنى تحتية الخ والتي أجمعت  كافة التقارير فى أنها فى حدود نقطة إلى ثلاث نقاط نمو ضائعة سنويا من الناتج الداخلي المحلى للبلد المغاربى الواحد، ممّا يعادل أو يتجاوز مستويات النمو المحققة لعدد من الدول المغاربية  مجتمعة، خسارة  تقدّر بمليارات الدولارات  (10 مليار دولار سنويا تقريبا)، ومئات الآلاف من فرص العمل المبدّدة، التي لو تم تفاديها كانت كفيلة بإنشاء موانئ للمياه العميقة فى كل بلد مغاربى، وشبكة نقل حديدية مغاربية متطورة قادرة على فك العزلة على أرياف وتخوم المدن المغاربية الكبرى وإدماجها مجددا فى الديناميات التنموية، ومكافحة جماعية أنجع للحدّ من ظاهرة التصحّر التي باتت  تهدد بابتلاع جزءا كبيرا من منطقتنا المغاربية الخ …

قسما ثاني غير معلن لا يمكن تقديره يتفرع عنه من جهة، أضرارا سوسيو نفسية  جمعية عميقة يصعب تداركها، فالمواطن المغاربى  أمسى يعيش منذ مطلع الألفية الجديدة حالة من الإحباط والشك الكبير حول إمكانية الشروع الجدي فى البناء المغاربى وما ترتب عن ذلك من تداعيات أمنية وانزلاقات جيوستراتيجية خطيرة، مرشحة لمزيد من الاتساع والتمدد إن لم نسرع فى تعديل سياساتنا المشتركة … ومن جهة ثانية، تكلفة إضافية متأتية عن حالة الوهن والضعف المسجل على مستوى قدراتنا التفاوضية مع شريكنا الاوروبى.. كلنا يعلم أن عدد من دول المغرب العربي تخوض منذ مدة بشكل انفرادي مفاوضات لعقد “اتفاق للتبادل الحر الشامل والمعمق”  مع الاتحاد الاوروبى -إحدى أهم التكتلات الاقتصادية فى العالم- مما ساهم فى مزيد تعميق حالة الاختلال فى الموازين التفاوضية  “l’état d’asymétrie ”  بين دول مغاربية مشتتة داخل كيانات وجزر تفاوضية منفردة شديدة الانغلاق على نفسها واتحاد اوروبى قوى وموحّد…

2- على مستوى الدّور الطلائعى التي قد تلعبه المدن المغاربية  للحدّ من هذه التكلفة العالية والتي لم تعدّ مقبولة إطلاقا… بداية لابد من التذكير بأنه بفعل العولمة والثورة الاتصالية والمعلوماتية السريعة التي نعيش على وقعها اليوم يتجه العالم  أكثر  فأكثر نحو مشهد دولي متعدد الأقطاب يلعب فيه المجتمع المدني دورا محوريا عند رسم السياسات الكبرى لكل دولة منها إعادة صياغة العلاقة بين المركز ومحيطه، بين المحور والجهات فى اتجاه إرساء  معادلة مجتمعية جديدة تمنح الجماعات المحلية  مزيدا من الصلاحيات والسلطات ..فمن علاقة عمودية تراتبية بين السلطة المركزية والجهات ننحو أكثر فأكثر باتجاه علاقات أفقية تشاركية .. خارطة مجتمعية جديدة فى طور التشكل لم تشذّ عنها منطقتنا المغاربية لكن بمستويات ودرجات انخراط متفاوتة من دولة إلى أخرى، تتراوح بين اللامحورية المحدودة أو الموسعة إلى الشروع فى تطبيق اللامركزية الترابية مثلما هو الشأن فى المغرب خاصة بعيد الإعلان عن دستور 2011. كما تجدر الإشارة أيضا بأنّ الباب السابع من الدستور التونسى الجديد  (دستور 26 جانفى 2014) ومشروع قانون الجماعات المحلية تبنيا معايير ومفاهيم جدّ مستحدثة فى إدارة الشأن المحلي منها اعتماد “مبدأ التدبير الحرّ” و”التفريع” و”الرقابة البعدية” الخ …

فالمدن المغاربية – البيئة الطبيعية الحاضنة لمجتمع مدني مغاربى اخذ فى التوسع والتأثير –  قادرة فى المنظور المتوسط أن تلعب دورا مركزيا وحاسما فى إعادة البناء المغاربى وفق براديغم بنيوى افقى هذه المرة فى تواصل دون قطع مع مؤسسات اتحاد المغرب العربي، نموذج جديد للاندماج يبنى بشكل سلس متدرج وتفاعلي من داخل وخارج اتحاد المغرب العربي…

كيف ؟

فمجلس الشورى التابع لاتحاد المغرب العربي يعدّ من المِؤسسات المغاربية المؤهلة إن توفرت لها عدد من الشروط أن تسرّع من نسق تحقيق المشروع المغاربى فى الاندماج الاقتصادي…كما إن استحثاث وتيرة المشاريع الاقتصادية المغاربية المشتركة عبر استخدام معقلن ورشيد لآلية الشراكة بين القطاع العام والخاص  يمكن أن تحققه مدننا بالنجاعة المطلوبة شريطة تبنى مقاربات وأدوات مستحدثة  لشبكة التوأمة فيما بينها تقوم أساسا على تبادل الخبرات والتجارب فى كيفية إدارة الشأن المحلى الاقتصادي  وذلك بالاستفادة القصوى من المزايا التفاضلية التي توفرها المنصات الرقمية من سرعة فى التواصل عن بعد بتكلفة جد منخفضة… فى هذا المجال تعدّ التجربة المغربية  فى الحكامة المحلية والشراكة بين القطاعين العام والخاص متقدمة وجد ثرية  يمكن الاستئناس والاستفادة منها إن تم التعاطي معها  بجدية ودون ادني مركبات…وبالعودة إلى الشراكة بين القطاع العام والخاص على المستوى المحلى المغاربى فهي تظل إلى جانب قيمتها المضافة المؤكدة عملية تقنية وقانونية غاية فى التعقيد والتشعب محفوفة بالمخاطر تتطلب إعادة تاهيل شامل للعنصر البشرى للمدن المغاربية.

3- على ضوء ما تقدم يستبطن المشهد المغاربى الرّاهن المعقّد والمركّب احتمالين لا غير :

  • فإما أن يتم إسقاط خيار البناء المغاربى المشترك والتوجه أكثر نحو البحث عن فضاءات اقتصادية إقليمية بديلة،
  • وإما أن تنجح المدن المغاربية – أي أن ننجح نحن – فى تحقيق الاختراق المطلوب من خلال صياغة عقد مغاربى جديد بهندسة مواطنية مستدامة.

فى الختام، من المهم أن نحافظ على قدر من التفاؤل فى مقاربتنا لإشكالية البناء المغاربى لكن الأهم من التفاؤل نفسه أن نعمل سويّا على تحقيق السيناريو الثاني…

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.