أيام قرطاج الكوريغرافية/ “حديث إلى أمي”.. حين تهطل الذكريات والرسائل على ركح “الحمراء”

 يسرى الشيخاوي

على ركح مسرح الحمراء ارتسمت ملامح عرض كوريغرافي مختلف خلقه الكوريغراف البوركيني أقيبو بوقوبالي سانو وحمل من خلاله الجمهور في جولة في ثنايا ذاكرته الموشحة بأثر  والدته ووطنه وحكايات كثيرة عن الاختلاف والثورة والمقاومة.

في العرض المبرمج ضمن أيام قرطاج الكوريغرافية  تتخذ كل التفاصيل منحى حميميا يسري بك إلى طفولة "أقيبو"، إلى مطبخ منزله المطرز بحب والدته وإخوته وإلى تحضيرات الأكل التي كان يشارك فيها الذكور في تحد صارخ للعادات والتقاليد.

والدة "أقيبو" تظهر في كل ملامح العرض الذي يحمل اسم "حديث إلى أمي"، هي إمرأة تؤمن بالمساواة ولا تلقي بالا لاستهزاء الناس منها إن هي شركت أولادها في الطبخ، هي إمرأة صارخة الحضور وإن غيبها الموت، هي إمرأة  ملهمة.

وأنت تنصت إلى كلمات الطفل الذي لا يكبر داخل " أقيبو" تتخيل ابتسامة هذه الأم ونظرات الحنو والحب في عينيها ونبرة صوتها وكلماتها ونصائحها وتراود الموسيقى التي يخلقها الثنائي  سيلفان داند وباري ودوببا  سانو خيالك وتقتفي أثر  الأمل في الخطاب الذي تشكل على الركح بمشاركة الجمهور.

ولعل ما يجعل هذا العرض متفردا هو تشريك الجمهور في تفاصيله ليكسر ذلك الحاجز بين الفنان وجمهوره وبحول الركح إلى فضاء تشاركي ويصبح "حديث إلى أمي" حديث إلى كل الأمهات ونبش في الذاكرات وتعداد للذكريات التي تجعل من العودة إلى الماضي فسحة التحرر من أعباء الحاضر.

على الخشبة، لا تسمع كلمات مفعمة بالصور الشعرية فقط ولا تقتفي أثر الذكريات فيها وإنما تصغي إلى صوت الموسيقى القادمة من عمق بوركينا فاسو وتلاحق خطوات " أقيبو" وهو يراقص الأثير في لوحات قليلة لكنها ملهمة ومثيرة للحنين الكامن في الدواخل، بل ترقب حركاته وهو يستأنس بوالدته في الطبخ.

مع حضور الجمهور  على الخشبة وتقاسمه تفاصيل الحكايات التي يرويها الراقص الذي يحمل والدته ووطنه بين ضلوعه ومشاركته إياه أكلة تقليدية كانت تعدها أمه على إيقاع أحاسيس يميزه فيها الفقد بقوة الذكرى، يصبح الركح فضاء رمزيا لمواجهة الموت في كل تجلياته.

وفي هذا العرض الذي جعل منه الفنان البوركيني فضاء لتكريم أمه وكل النساء الحالمات الثائرات الصامدات في وجه كل أشكال التمييز، يشارك الجمهور في صياغة تفاصيل الحكاية بحضوره طيلة ساعة من الزمن على الركح ومشاركة اثنين منه في الكوريغرافيا التي استدرت تصفيق الحضور.

وفي مسرح الحمراء لم تتهاطل الذكريات فحسب بل تهاطلت، أيضا، رسائل كثيرة عن الحب وعن العلاقات الأسرية ودورها في تكوين شخصية الفرد وعن الانتماء للوطن وعن الاختلاف وعن التأثر والتأثير وعن دور المرأة في التغيير والبناء.

رسائل كثيرة نثرها " أقيبو" وتلقاها الجمهور كل على طريقته من ذلك الحديث عن أثر كورونا وعن الاستعمار وعن الهيمنة الغربية وعن الآفات التي تتهدد المجتمعات الافريقية ومن خلال بعض الإحالات عن الوضع في تونس في خطابه مع والدته التي يناجيها وينقل إليها أخبار الواقع لتبلغها إلى الرب.

عن محمد البوعزيزي تحدث إلى روح أمه وشرع أبواب التفكير في واقع تونس بعد الثورة التي تلاشت قبل أن تكتمل ملامحها، وعن حبيبة مسيكة ومية الجريبي وجليلة بكار وراضية النصراوي واصل روايته المخضبة بالأحاسيس وكانت إحالته عنوانا للاحتفاء بنساء رحلت أجساد بعضهن وظل أثرهن يقارع النسيان ومازلت أخريات يقاومن كل على طريقتها.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.