37
هل حدث أن تمنيت ألا تضاء أنوار قاعة العرض حتى لا يلاحظ من معك في القاعة ملامح وجهك أو انتفاخ عينيك نتيجة تأثرك بفيلم؟ هكذا كان المشهد إثر انتهاء عرض فيلم “الذراري الحمر” للمخرج لطفي عاشور ضمن فعاليات الدورة الخامسة والثلاثين لأيام قرطاج السينمائية، وكأن جلّ من في القاعة تمنوا لو لم تضئ الأنوار، ففيلم “الذراري الحمر” لم ينته بنزول جينيريك النهاية بل تواصلت أحداثه داخل قاعة العرض وردة فعل الجمهور ماهي إلاّ ردة فعل الشعب التونسي الذي تأثر وبكى إثر متابعته لتفاصيل قضية الطفل مبروك السلطاني الذي راح ضحية عملية إرهابية وحشية في جبل المغيلة سنة 2015.
في 100 دقيقة، تمكنت كاميرا لطفي عاشور من إعادة تجسيد واقع مرّ وحقبة سوداء من تاريخ تونس برؤية سينمائية فنية وحبكة درامية عميقة حيث روت لنا قصة طفل صغير يجبر على حمل رأس إبن عمه في حقيبة بعد أن ذبحه الإرهابيون أمام عينيه ولعلّ لطفي عاشور خيّر في فيلمه اعتماد منهجية الصدمة منذ البداية وهو ما جسده في مشهد طفل جاثم على ركبتيه بملامح شاحبة وأمامه رأس مقطوعة وهنا نستحضر نظريات ألفريد هيتشكوك، وقدرته الفريدة على استخدام الكاميرا والمونتاج لخلق توتر نفسي لدى المشاهد والتحكم في نفسيته حيث يؤمن هيتشكوك أن الكاميرا ليست مجرد أداة لتصوير الأحداث بل ولسردها.
سلّط لطفي عاشور في فيلم “الذراري الحمر” الضوء على عديد القضايا لعل أهمها معاناة سكان المناطق المهمشة والمتاخمة للجبال من آفة الفقر وعنف الإرهاب الذي أقضّ مضاجعهم.
“الذراري الحمر” وهو إنتاج تونسي- فرنسي- بلجيكي مشترك، غاص من خلاله لطفي عاشور في عمق نفس الطفل الجريحة حيث وجّه تفكيرنا وعقولنا إلى موضوع قد نكون تغافلنا عنه في فترة معينة وهو أثر الإرهاب على نفسية الطفل، فقضية ذبح الطفل مبروك السلطاني التي شغلت الرأي العام ووسائل الاعلام لم تكن سوى مطيّة للطفي عاشور ليلفت انتباهنا إلى شخصية قد تكون ثانوية في القصة وهي شخصية ابن العم الذي حمل الرأس في كيس بلاستيكي وأثر هذه الحادثة الفظيعة على نفسيته.
ينطلق فيلم “الذراري الحمر” بمشهد طريف يجمع طفلين ـ ابنا عمّ ـ وهما نزار وأشرف (علي الهلالي وياسين سمعوني) يرعيان الأغنام ويلعبان على سفح الجبل، يدور بينهما حوار بريء حول حياة العزلة التي يعيشانها، يعمد المخرج في هذه المشاهد إلى التركيز على ملامح الطفلين التي جمعت بين الحدّة نتيجة البيئة القاسية التي ترعرعا فيها وبين البراءة، وهنا نشير إلى نقطة هامة جدا في هذا العمل وهي الكاستينغ المختار بدقة شديدة حيث نجح لطفي عاشور من خلال اختيار أبطال عمله في إيصال رسالته بشكل أعمق فقد فاق أداء الطفلين الواقعية بتماهيهما مع الشخصيتين.
هدوء الطفلين وانغماسهما في عالم الأحلام لم يستمر طويلا حيث اقتحمت “الشياطين” هذا العالم البريء، وبكل برودة دم قامت المجموعة الإرهابية التي تتخذ الجبال ملجأ لها بذبح “نزار” وفصل رأسه عن جسده أمام مرأى عيني “أشرف” ثم أجبرت هذا الطفل الذي لم يتجاوز سنه الخامسة عشرة على حمل الرأس إلى العائلة لتبدو رسالتهم أكثر دموية .
يحمل الطفل أشرف الرأس المقطوعة ويضعها بثبات في الحقيبة، ويعود مسرعا الى الديار دون أيّة ردة فعل تذكر، فقط الصدمة هي التي كانت تسيطر على نفسيّته، تسلط كاميرا لطفي عاشور على ملامح الطفل وحركاته لإبراز تأثير العنف الذي عبّر عنه بالصمت، يحاول أشرف في طريق العودة تجاوز مشهد الذبح فينقذ معزة قتلت والدتها في انفجار لغم، ثم يشارك أصدقاءه لعب كرة القدم وهنا يتبين لنا أثر ما تعرض إليه من خلال استعماله للعنف أثناء اللعب.
الطفل علي هلالي الذي جسّد دور “أشرف”، هو ببساطة ممثل بالفطرة، طفل تحمل ملامحه ثقل الحياة وقسوتها، حيث نجح من خلاله أدائه المتميز وتمكّنه من الشخصية في أخذنا إلى عالمه الخاص وسافر بنا الى أعماق طفل عاش لحظات رعب بمفرده لكنه يحاول تجاوزها بكبت مشاعر البراءة والطفولة داخله ليعبر لنا عن صموده وعدم انكساره أمام ظروف قاسية فرضتها عليه وضعية البلاد ككل، وكأن ببراءته ذات الملامح القاسية يسائلنا “بأي ذنب قُتلت طفلوتنا؟”
يعجز الطفل عن إخبار العائلة وتسليمها رأس ابنهم، فيلتجئ إلى الطفلة رحمة ويخبرها بما حلّ بصديقهما نزار، يحمل الطفلان الحقيبة الى الأم ( لطيفة القفصي) التي تصر على البحث عن جسد ابنها (ولدي جبتو كامل ندفنو كامل).
تنتظر العائلة وصول الأمن والجهات الرسمية دون جدوى، فيقرّر أخو الضحية ويدعى منير صحبة أفراد العائلة التوغل في الجبل للبحث عن بقية جثة نزار بمساعدة أشرف والكلاب والعصيّ.
يظهر المخرج أثناء هذه الرحلة المعاناة التي يعيشها أهالي هذه المناطق المهمّشة والصعوبات والمخاطر التي يتعرضون إليها ولعلّ مشهد نجاة الأخ من لغم وكيفية تعامل الأهالي مع الألغام يلخّص هذه المعاناة، وسط هذه الحقائق يرى الطفل أشرف طيف صديقه نزار متجسدا أمامه في كل مكان يحدّثه ويكشف له عن مشاعره وخوفه ويسأله إن كان شعر بالألم أثناء ذبحه، في هذا الفيلم نجح المخرج من خلال أداء الطفل علي الهلالي المتمكن والمحترف وبراعته في التأثير على المتلقي ومخاطبة العقل قبل القلب.
لم ينقل لطفي عاشور تفاصيل القصة الحقيقية كما شاهدنا حيثياتها في وسائل الاعلام والأخبار والاستوديوهات التحليلية أو كما نقلتها الجهات الرسمية بل أضاف خياله إليها ودفعنا الى رؤية جوانب مخفية فيها، فالإرهاب حسب “الذراري الحمر” لم يكن إرهاب الجماعات المتطرفة فحسب بل هو إرهاب اجتماعي وسياسي وأمني ونفسي كما وجه المخرج أصابع الاتهام الى عدّة جهات من خلال تعمّقه في تصوير نفسية الطفل أشرف، وسلّط الضوء على إهمال السلطات لهذه الفئة المهمشة، حيث لم تحرك ساكنًا إلا بعد نشر الجماعة الارهابية لفيديو الجريمة.
مازج لطفي عاشور في “الذراري الحمر” بين الواقع والخيال وبين البراءة والعنف وبين الشجاعة والتضحية وهو ما نستشفه في العنوان أيضا الذي يحمل عديد الدلالات والمعاني القوية “فالذراري” هم الأطفال و”الحمر” أي الشجعان، ليبرز للمتلقي قدرة أطفال هذه المناطق المنسيّة على تجاوز العنف والدمار وتحملهم مسؤوليات تفوق أحجامهم الصغيرة وقلوبهم البريئة، ويؤكد أن السينما قادرة من خلال قصص حقيقية أن تصنع حكايات صمود غير قابلة للنسيان ليس فقط بالتوثيق بل بأسلوب روائي فني، اعتمد فيه لطفي عاشور على البنية الدرامية المحبكة وجمال الصورة وحسن إدارة الممثلين.
يذكر أن فيلم “الذراري الحمر” تحصل على جائزتي اليسر الذهبية لأفضل فيلم طويل وجائزة اليسر لأحسن إخراج التي آلت إلى مخرج العمل لطفي عاشور ضمن فعاليات الدورة الرابعة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، كما سبق أن تحصل على جائزة أفضل فيلم في مهرجان نامور.
(سناء الماجري- الجمهورية)