أزمة رواية "أين الله" .. أو ازمة انغلاق الفكر الاسلامي؟!

تثور بين فترة وأخري أزمة بسبب عمل أدبي، يعتقد بعض المواطنين الصالحين أن فيه تجديفًا في وجه الله، أو ازدراءً  لأديانه أو كتبه السماوية المقدسة، أو انتهاكًا للقيم العليا السامية التي تجب صيانتها، والذود عنها، ومن ثم يفزعون إلى ساحات القضاء يناشدونه القصاص من ذلك الأديب المارق ورده إلي حضيرة الإيمان، وحجب عمله حتي لا ينتشر فيفسد عقول الناس وأخلاقهم.. وفي ذلك ظلم للأدب لأنه لم يحاكم أمام قاضيه الطبيعي وهو الناقد الأدبي.. إذ لا تجوز محاكمة عمل أدبي من منظور غير أدبي، لا يدرك طبيعته الخاصة، وقوانين صناعته الداخلية، وآليات اشتغاله، وطرق أدائه لرسالته.. 

ولا تزال تعلق بالأذهان قضية رواية 'وليمة لأعشاب البحر' للروائي السوري 'حيدر حيدر' وما خلّفته من جدل وتهييج وبلبلة أثارها واستغلها أنصار تيار الإسلام السياسي، بوصفهم الوكلاء الوحيدين لله علي هذه الأرض.. ولم يزل حاضرًا في الأذهان بقوة – أيضًا – ذلك الصخب الذي ثار بسبب بعض قصائد ديوان 'الثناء علي الضعف' للشاعر حلمي سالم، وبالتحديد قصيدتا: 'الأحرار'، و'الطائر'، والدعوة إلي سحب جائزة الدولة منه عقابًا له علي بعض رؤاه الحداثية، ونزوعه التجريبي!!
وأحدث القضايا في هذا السياق، سياق حدود حرية الرأي والتعبير، هي قضية المجموعة القصصية 'أين الله؟' للكاتب كرم صابر، المحامي والناشط الحقوقي ورئيس مركز الأرض لحقوق الإنسان وهي المجموعة الصادرة أوائل عام 2011، والتي حكم علي كاتبها بالسجن خمس سنوات، الثلاثاء الماضي 11 مارس 2014، وسحب المجموعة من الأسواق، بتهمة ازدراء الأديان.. 
تكونت المجموعة من إحدى عشرة قصة هي: النوم في الصلاة، لغة الأحاسيس، الميراث، معروف، ورقة المأذون البالية، الحب الإلهي، الشيخ طه، الفقري، ست الحسن، الطفل يتساءل، وأخيرًا قصة 'أين الله؟' التي حملت المجموعة عنوانها.
تدور قصص المجموعة جميعًا حول تيمة أدبية واحدة هي شوق البشرية القديم إلي العدل، حسب مفهومها له ولطريقة تطبيقه.. فهي حين لا تري هذا العدل علي الأرض، وتحس وطأة الظلم وفداحته، تتجه إلي الله، تخاطبه مباشرة شاكية باكية، بل ومسيئة أحيانًا في لحظات اليأس والغضب، والحيرة وعدم فهم الحكمة من تصاريف القدر.. وتبلغ ذروة إساءتها في هذا السؤال الوجوديّ الشاك الحائر المستبطئ: 'أين الله؟'.. وهو السؤال الذي يشكل مفتاح البنية الدلالية الكبرى لعالم المجموعة القصصية، وعنوانها المهيّئ للتلقي.. 
وقد اعتمدت قصص المجموعة، إلي جانب السرد، تقنية الخطاب المباشر الذي يوجهه شخوص القصص إلى الله، تحت وقع ضربات القدر وما تخلّفه من أزمات نفسية وروحية عنيفة.. وفي هذا الخطاب قد تقع إساءات بلغة غير مهذبة لا تليق بخطاب الذات العلية، إذا ما نُظر إليها من منظور ديني بحت، وهو ما وضع المجموعة وصاحبها موضع المساءلة والمؤاخذة.. وتقنية الخطاب المباشر تلائم حالات الغضب والاحتجاج.. وهي تقنية أدبية معروفة، وأشهر من اتخذها قالبًا أدبيًا هو محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفريّ في كتابه المشهور 'المواقف والمخاطبات'.
تسيطر على قصص المجموعة النزعة الرعوية.. والاحتفاء بالبراءة والنقاء والبكارة 'وهي اللفظة التي تتكرر بشكل لافت في ثنايا قصص المجموعة' والتوق إلى الانعتاق والتحررمن عالم المادة وكثافته وضغوطه وشكلياته وطقوسه الخالية من الصدق والإخلاص.. 
وقد تكون البراءة هنا مجرد قناع أو حيلة قصصية لإظهار مدى البؤس الذي آلت إليه قوانين الهيئة الاجتماعية وما تحدثه من تخريب في العلاقات الإنسانية، كما في قصة 'الميراث' التي تضع براءة الأخت 'عواطف' بإزاء خبث الإخوة وجحودهم.. 
كما يتسم معظم شخوص قصص المجموعة بالسذاجة البادية.. فهل تبرر تلك السذاجة ـ فنيًا ـ ما يرد علي ألسنة هذه الشخوص من سوء أدب وتجديف في خطابهم إلى الله، وهم يعاتبونه ويشكون إليه ما يعتقدونه ظلمًا؟ في قصة 'معروف'، ينظر الفلاح 'معروف' ناحية الغروب، بعد أن غرقت جاموسته في الساقية، قائلًا: 'انزل يا…. أنا عملت لك حاجة علشان تؤذيني وترمي جاموستي بالساقية…غور في داهية واشبع بظلمك' 'أين الله، ص: 25'. وهي لغة، كما يبدو، مفعمة بالتجديف والسخط والإساءة، خاصة إذا علمت أن موضع النقط الأولي في الاقتباس السابق هو لفظ 'وسخ'.. 
وفي مقابل ذلك، وربما نشدانا للتوازن، يرد على لسان 'معروف' نفسه ولكن في قصة أخرى هي 'الفقري'، يرد هذا الخطاب المفعم بالحنان والإذعان: 'ليه كده يا حنّان؟! أنا عملت إيه علشان تعمل فيّ كدة.. فين رحمتك؟ هاكل منين أنا والعيال.. أنت مش حاسس بفقري؟!' 'أين الله، ص: 53-54'.
وفي قصة الميراث تهذي عواطف بعد ظلم إخوتها لها قائلة: 'إن الله يحقد علي النساء، لأنهن جميلات، ولهن صدور نافرات، وتمتلئ أردافهن حبًا وعشقًا للحياة.. بينما الرب يحب القسوة وشنبات الرجال وقلوبهم الميتة' 'أين الله، ص: 21'.
هذه مجرد نماذج من لغة وشخصيات وتصورات المجموعة القصصية 'أين الله؟'، وفي البداية نتساءل: أكان لابد من مقاربة هذه الشفرة الصادمة؟ ففي تقديري أن هذه اللغة الخشنة الصادمة التي استخدمها الكاتب في ثنايا قصص مجموعته قد ابتعدت عن الفن بقدر ما اقتربت من الواقع.. لقد عبر الأديب العالميّ نجيب محفوظ تعبيرًا موجزًا رفيعًا عن حيرة الإنسان أمام القدر، على لسان 'عائشة' في الثلاثية، حين انهالت عليها المصائب من فقد الزوج إلى فقد الأبناء إلى مناوشة الأمراض والأسقام، وهي البريئة التي لم تؤذ أحدًا، فلم تزد علي أن قالت جملًا ثلاثًا، لخص فيها نجيب محفوظ الحالة، قالت 'عائشة': 'ما هذا يارب؟ لماذا تفعل ذلك؟ أريد أن أفهم'.
ولم تكن اللغة الخشنة هي كل ما اعتور قصص المجموعة من قصور وضعف، بل فيها إلى جانب ذلك تشابه الوقائع القصصية بطول المجموعة، وتشابه تعليقات ومخاطبات شخوصها إلي حد التطابق مما أفقدها التنوع الخلاق، وأصاب متلقيها بالإملال والضجر.. 
ومن المفارقات اللافتة أن القصة التي حملت عنوان المجموعة أو حملت المجموعة عنوانها، وهي 'أين الله؟'، جاءت أقل فنية من القصص العشر السابقات عليها، فلم تعدُ أن تكون تعليقًا خطابيًا مجترًا على أحداث هذه القصص، كما افتقدت حرارة الصراع ولذعة الفقد التي خلقت نوعًا من الديناميكية والصدق الفني الذي ميز بقية قصص المجموعة.
ورغم كل ذلك، لا يسعنا هنا إلا أن نسجل موقفنا واضحًا ودون مواربة، وهو أن تتاح حرية الرأي والتعبير والإبداع لكل مبدع، وألا يسجن أو تُقيد حريته بسبب إبداعه.. فتلك حقوق دستورية ينبغي أن تظل مصونة لا تمس ولا تنتهك.. وأن يُترك الحكم عليه، بدلًا من ذلك، لأهل الاختصاص وهم نقاد الأدب والقراء والتاريخ الأدبي الذي يحتفي دائمًا بالنص الجيد ويخلده، وينفي الزائف ويسقطه، وهذا هو القانون الذي لا يرحم!.

ــــــــــــــــــــ

المصدر: الاسبوع المصرية بتاريخ 20 مارس 2014

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.