“أحببت جلادي” للمياء الفالح.. أو الموت على عتبات الحلم..

محمد علي الصغير-
عن دار عليسة للنشر، أصدرت الروائية الشابة لمياء الفالح، خريجة معهد الصحافة وعلوم الإخبار عملها الأدبي الأول "أحببت جلادي". هذا العمل الروائي جاء لينير طريقا جديدا أمام لمياء الفالح التي كانت الى حدود اصدار هذا العمل تمارس الرواية في شكل هواية على حد تصريحها لنا خلال اللقاء الذي جمعنا مؤخرا في رحاب معهد الصحافة.
 
استلهَمَت الكاتبة فكرتها أو لنقل مسارها في هذه الرواية التي وردت في 168 صفحة، من خلال متلازمة ستوكهولم حيث كانت الرواية بمثابة بحر هائج ومائج من المتناقضات. هذه المتلازمة التي انْبَنت أساسا على التناقض من خلال تحوّل لا مقبول لمشاعر المختطُفين تجاه مختطِفيهم من النقمة الى التعاطف الى حدّ التواطؤ كانت مُلهِمة للكاتبة  الشابة لمياء الفالح. كيف لا وقد تحّوّلت البطلة من ناقِمة الى مسامحة ومن كارهة الى مُحِبّة ومن نافِرة الى راغبة ومن حاقدة الى عاشقة.
 
هذا التأرجح بين اليأس والرجاء، بين القبول والنفور، بين الصبر والتسرّع، وهذا السفر الطويل واللامتناهي بين الأمواج العاتية من المشاعر المتناقضة وكأنها أمواج تتكسر على أطرافها كل السفن، ترجمته الكاتبة الى نص قصصي سلس ومرن من ناحية ولكنّه مؤرِقٌ ومحزِنٌ من ناحية أخرى. الأمر يتعلق هنا اساسا بهذا التحدي الخطير الذي رفعه الأنا الأعلى المشبع بالكم الهائل من الأعراف والتقاليد والمكبلة لرغبة الأنا في التمرد والهروب من القيود وبالحرب الشرسة المستعرة بين العقل الذي يضع حواجز متعددة ضد المشاعر والأحاسيس وبين العاطفة التي تتوق الى افراغ شحنة من المشاعر الملتهبة والجياشة.
 
لم تجد الكاتبة من خلال اختيار شخصيّتها الرئيسية، سلام، التي تختزن ألمًا بِحَجْمِ وطنِها، العراق الجريح والذي يئِنّ ويرزح تحت ويلات الاستعمار الأمريكي، من بُدٍّ في استعمال ترسانة من الألفاظ والعبارات "المأساوية" الى حدّ اجبار القارئ المتعطش الى معرفة نهاية مسار سلام على التعاطف بل والى التماهي مع بطلة الرواية التي لا يكاد ينتهي منها فصل من العذاب حتى يبدأ آخر أشد وطأة وأكثر قسوة وأعظم درجة في الألم.
 
لقد تفننت الكاتبة عبر ثنايا هذا النص المحبوك بشكل متماسك ومتناسق وكأن الشابة لمياء الفالح تخوض تجربة متجددة والحال أن هذا العمل هو فاتحة أعمالها الأدبية كما أشرنا سابقا، تفننت في ارباك القارئ وجرِّه عنوة نحو الاعتناء بأدقّ التفاصيل التي تحيط بأبطال ها العمل على قلّتهم. ولا نحسب تركيز الكاتبة على عدد محدود من الشخوص من قبيل "الخوف" من انفلات "العقد" وعدم القدرة على تطويع أبطالها وترويضهم،  بل يندرج الأمر يقينا في إطار الحبكة القصصية التي جعلت من "سلام" و"ديفيد" فَلكيْن تدور حولهما بقية الشخصيات، تقترب حينا فتكتوي معها بنار الألم وتبتعد حينا آخر فتزيد في الاحساس باللوعة والاشتياق.
 
"أحببت جلادي" اختزنت كمّا هائلا من الرسائل المشفّرة حينا والمفتوحة حينا آخر. اذ لم يكن يسيرا على القارئ أن يختزل عبر بعض الكلمات حجم معاناة  البطلة "سلام" التي تعيش "حربا" داخلية وتتلاطمها أمواج من المشاعر الجياشة. بين سلام المسلمة وديفد المسيحي كانت هناك مسافة بحجم الأفق البعيد سرعان ما تلاشت… بين سلام العربية المستعبَدَة وديفيد الاستعماري المتغطرس كان هناك كره وحقد بحجم الجبل سرعان ما تحطّم…  بين سلام الضعيفة والمُغْتَصَبة وديفيد الغاشم المستبدّ وُلِدَ احساس بالرغبة في الانتقام تحوّل بفعل الزمن والتعوّد الى بحر جارف من العشق والهيام… لكن ظهر فجأة ما لم يكن في الحسبان…
 
حلّ العقدة الأولى انتهى بعقدة ثانية وبمجرّد ظهور "عائد حلمي" الضلع الثالث في هذا العمل الروائي والذي بموته المصطنع انطلقت رحلة سلام مع العذاب والألم أطلقت الكاتبة رصاصة الرحمة على بطلتها ولكن على يد حبيبها الأوّل حيث فهي تعلم أن لا سلام بعد لقاء بعد عودة "عائد حلمي" الذي مع ظهوره يكون حلم سلام قد تحوّل الى جحيم… فقلبُها لن يتسع لقلبين الأول أحبته طواعية فبكت على فراقه دما والثاني عشقته كَرْهًا وحملت في أحشائها بذرة منه فَفَدتْ روحه بدمها…
 
 لكن القدر كان أعدلَ وأرحَمَ من أن يطيل في معاناة سلام التي تمزّقت أوصال مشاعرها بين حب "مُحَرّمٍ" وبين مجتَمِع تقليدي قاس ومتشدد لفظها ورفض احتضانها بعد أن عادت اليه منكسرة… لحظات آثمة وردهات من المتعة التي استرقتها سلام في خضمّ الكم الهائل من الهواجس والقيود الداخلية التي ما تنفك تشدد الحصار عليها، لم تدُمْ طويلا وكأن الكاتبة استكثرت على بطلتها برهة من السعادة بعد خريف من العذاب والمعاناة… كيف لا وهي قد صدرت روايتها باهداء تتوعّد فيه " كل من تسوّل له نفسه الوقوع في الحبّ زمن اللاحبّ، سوف تموت، لا تتجرأ… لا تقترب…"
 
لم يكن من العسير على متصفّح هذه الفصول المتعاقبة من الألم والحزن والاضطراب النفسي أن يلحظ مدى تواطؤ الكاتبة من خلال الإمعان في تعذيب بطلتها عبر تأزيم المواقف وفرض سياسة الأمر الواقع أمامه فالكاتبة كانت تعلم منذ البداية أن عقاب بطلتها "سيكون وخيما" وأنه لا يمكن للمرء أن يحب جلاده إلاّ "في حالة واحدة فقط وهي عندما يكون هذا الشخص أخرق" مثل بطلة لمياء الفالح "يتلذذ بالعيش وسط العذاب"… ربما مثل لمياء…

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.