النهضة وعباءة الجماعة

تتجه الأنظار خلال الأيام الثلاثة المقبلة نحو حدث أراد منظموه أن يسوِّقوا له على أنه تاريخي ومفصليّ. إنًّه المؤتمر العاشر لحركة النهضة التونسيّة الذي سيكون، على زعم قادتها، فاتحة لعهد جديد في تاريخ «الجماعة الإسلامية» إذ ستتحوّل بمقتضاه هذه الحركة ذات المرجعية الدينية الى حزب سياسي مدني. ينظر المتابعون للشأن السياسي الى هذا المؤتمر وإلى كل التحضيرات والاستعدادات التي تسبقه بنوع من الشّغف والرّيبة في آن واحد. الشّغف مأتاه معسول الكلام الذي يروِّجه قادتها في الصحف وفي كل البرامج التلفزيونية والإذاعيّة، والرّيبة بالنظر إلى تاريخ الحركة المتلوّنة بتلوّن الظروف السياسيّة والأوضاع الإقليميّة.

ولطالما سوَّقت هذه الحركة نفسَها، وهي التي تؤمن بجدارتها بأن تكون الممثل «الشرعي» الوحيد للإسلام السياسي في بلادنا، على أنَّها حركة متغيّرة بتغيُّر الظروف السياسية والاجتماعية وعلى أنًّها حركة قادرة على التًّأقلم مع كلِّ الوضعيَّات. هذا ما جاء تقريبا على ألسنة معظم قادتها ورجالاتها في الصفوف الأمامية.

والحقًّ الحقًّ، فقد نجحت الحركة فعلا وعلى امتداد مسارها التاريخي وتحديدا في السّنوات التي تلت الثورة التونسية على أن تتموقع في مواضع مريحة لها نسبيّا وأن تتلوَّن بألوان تتماشى والواقع الذي تعيشه. ولعلّ تحالفها المخالف للطبيعة مع حزب نداء تونس، عدوّ الأمس وصديق اليوم، بوّأها منزلة مريحة وقوّى رغبتها في التمدّد وتقوية حضورها على الساحة السياسيّة بالاستفادة من حالة الوهن التي يشهدها حليفها الأبرز في الحكم.

ويُحسَب لحركة النهضة، وهذا للتاريخ، أنّها نجحت بفضل دهاء منظريها وحنكة قادتها في أن تتجنَّب أسوء السيناريوهات وأبغض المصائر. ولعلًّ الفشل الذريع للاخوان المسلمين في مصر وانقلاب جزء كبير من الشعب عليهم وبروز محدودية آفاقهم وعجزهم على إدارة الشأن العام، كان الدّرس الأبرز الذي استفاد منه زعيم النهضة و «إخوانه» من الذين كانوا بالأمس القريب يتوعَّدون خصومهم السياسيِّين ويتمنون لهم أن «يموتوا بغيضهم».

ولئن أمكن توصيف هذا الحدث بالمفصليّ في تاريخ حركة الإخوان المسلمين فإنًّه كان أهمَّ وأخطر ـــ وهذا المهم بالنسبة لناـــ في تاريخ وفي مستقبل حركة النهضة التي هي امتداد لهذا التنظيم المنتشر في عدد كبير من دول العالم رغم تبرُّئ زعمائها اليوم ونفيهم هذا الانتماء والحال أن شيخهم أحد منظّري الإخوان والصّديق الشخصي للقرضاوي صاحب المواقف المتقلّبة.

ولئن استفادت الحركة من وقفة التأمُّل والمراجعة التي قامت بها آنذاك حينما استشعرت الخطر القادم من الشرق رغم تعنُّت قواعدها وبعض القادة المنفلتين الذين راحوا يرفعون شعار «رابعة العدويّة» في إشارة الى مساندتهم لإخوانهم في مصر، فإنًّها ما كانت لتتفادى هذا السيناريو لولا استفادتها من روح المسؤولية التي تحلَّى بها خصومها وكلُّ المناوئين لحكم الترويكا الذي تترأسه آنذاك والذين أدركوا حينها أنّ المواجهة كفيلة بأن تدخل البلاد في أتون حرب أهليّة طاحنة لا طاقة للتونسيين بتحمُّل عواقبها.

منظّرو الحركة وزعماؤها الذين ارتكبوا من الزلَّات ما لا يُغتَفر(تصريح الجبالي حول الخلافة السادسة، توعُّد الصادق شورو في قبّة البرلمان، للمعتصمين بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أحداث الرشّ في سليانة والاعتداءات على المتظاهرين في احتفالات 9 أفريل وتهريب أبي عياض جهارا نهارا في عهد وزير الداخلية علي العريض) أدركوا حينها أنًّهم أمام الفرصة الأخيرة لإنقاذ الاسلام السياسي من الاندثار والذهاب دون عودة بعد أن أدركت الشعوب في مصر وتونس أن هذه الجماعات التي تحكم بإسم الدين إنما هي وجه جديد للعملة نفسها، أي نمط جديد للاستبداد والانتهازية والزبونيَّة، وأن الإسلام كلمة حق استعملت في تحقيق الباطل. ولعلًّ ما أصبح عليه هؤلاء من ثراء فاحش وترفٍ مثير للشبهات بإسم التعويض على سنوات الجمر وجبر الأضرار على سنوات من الحرمان ما يجعلنا نُقِرُّ دون توهّمٍ أنهم عادوا فقط لتحقيق أطماعهم وليستردُّوا أكثر من حقوقِهم، وليجعلوا من هذا الشعب رهينة لمزايداتهم وطروحاتهم الفكرية والدينيّة التي أصبحت الشغل الشاغل له والبديل عن حل مشاكله المصيريّة التي من أجلها خرج ذات 17 ديسمبر 2010.

حديثهم اليوم عن التغيير، بعد أن ملؤوا جيوبهم وحساباتهم البنكيّة وشيَّدوا قصورهم وزرعوا عيونهم في كل مفاصل الإدارة، وتبشيرنا بمفردات عامة وسطحيّة من قبيل «التخصّص» وغيرها وتحوُّلهم من جماعة الى حزب ومن حركة دعوية الى حركة سياسيّة خالصة لا مجال فيه للخلط بين الدين والدنيا هو من قبيل السّراب الذي يحسبه الضمآن ماء. أدبياتهم ومرجعيًّاتهم الفكرية والاديولوجية تمنعهم من التغيّر والتخليّ عن مبادئهم الكبرى فزعيمهم ومُلهِمُهم ما فتئ يؤكد على أنًّه «لا سبيل لفصل الدين عن السياسة».

وليس هذا من قبيل التصريحات التي اعتادوا على نقضها كعادتهم وإنَّما هي اعتقادات وأفكار موثًّقة في الكتب والدراسات التي يتباهون بها. فكيف لنا اليوم أن نؤمن بعكس ما يضمرون؟ المسألة التي يوهمون الناس بها ليست بهاته البساطة. فأنّى لهم بفصْل الدعوي عن السياسي والحال أن معظمهم يباشرون السياسة صباحا ويؤمُّون الناس مساء؟ كيف لهم أن يتبرّؤوا من «الدين» والحال أنّه العامل الرئيس في تجمّع الناس حولهم والمشترك الأبرز بينهم وبين قواعدهم؟ ألم يقدّموا أنفسهم إبّان الانتخابات على أنّهم «الأورع» و»الأتقى» من بين كلّ المترشّحين؟ أو لم تَسِر الناس خلفهم سير القطيع متوهّمين أن الخلاص سيكون على أياديهم وببركات شيخهم؟ القول اليوم إن النهضة سليلة «حركة الإخوان المسلمين» ستتحوّل من حركة دعويّة الى حزب سياسي مدني صرف هو ضرب من ضروب الاستهلاك الإعلامي والتقيّة.

فلا الإخوان سيسمحون للغنوشي وجماعته بالقضاء على آخر أمل لهم في البقاء على السّاحة السياسيّة في العالم العربي خصوصا بعد فشل التجارب الأخرى في مصر وسوريا مثلا، ولا حركة النهضة بقادرة على الخروج من جلباب الإخوان وارتداء غير عباءة المسلمين.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.