الفساد والديمقراطية في تونس : مفارقة عجيبة لكنها ممكنة!

أن تكون تونس الأولى عربيا في الديمقراطية فهذا شيء تُحسد عليه ّأما أن تكون الأولى من حيث مؤشرات الفساد فهذا أمر غير محمود … !

كيف يمكن لبلد يتّصف بالديمقراطية أن يكون في الآن ذاته متصفا باستشراء الفساد ؟
إنها لمفارقة عجيبة أن تكون صاحبة  المرتبة 66 دوليا والأولى عربيا، و التي ينتظر أن تحسب ضمن أهمّ البلدان التي تشهد تجارب انتقال ديمقراطي بعد موجة الثورات العربية المفاجئة للعالم و لعلماء السياسة ، هؤلاء الذين كانوا يعتقدون أنّ بلدانا تغيب فيها عوامل التقدم و الازدهار الاقتصادي و يحكمها الاسلام كثقافة دينية عامة لا يمكن أن تشهد انتقالا ديمقراطيا بالمعنى النظري للكلمة . 
و لأنّ تونس لطالما كانت سباّقة في احتلال المراتب التي تؤكّد إيمانها بالقيم الكونية فلم يكن أن سجلت أعلى نسبة تطور ايجابي على الصعيد الدولي في ما يتعلق بمؤشر التطور الديمقراطي بعد تقدمها بـ36 درجة بحسب تقرير دولي صدر في سنة 2015 ، أمرا مستغربا … كما قد يكون مؤشر الفساد خاصّها .. غير مثير للدّهشة ، ذلك أنّ سقوط نظام بن علي الذي اتّهم أساسا بالرشوة و الفساد، كان منوطا بجل ّ هذه المواصفات السلبية لكن هل انّ نظام بن علي هو الوحيد المسؤول عن استنزاف الثروات الطبيعية للبلاد؟ 
بمعنى ألم يكن من الممكن سدّ ثغرات السرقة و الرشوة و الفساد التي كانت تحول دون إرساء حوكمة رشيدة أم أنّ عدم القدرة على ذلك و انعدام "الكفاءة السياسية " للحكومات التالية لهذا الحكم المتصف بالفساد و الإحاطة التامة بمتطلبات المرحلة الراهنة و ما تستوجبه من فطنة و حزم حال دون استشراء الفساد ؟ 
ألم يكن بمقدور التقرير الذي أصدرته لجنة تقصي الحقائق حول الرشوة و الفساد بمعية الفقيد عبد الفتاح عمر و الجهد الكبير (والذي يحسب له و للقائمين على ذلك التقرير ) أن يكفي شر هذا النزيف ؟ و هنا نشير الى مدى نجاعة مبادرة سيادة الرئيس بتفعيل قانون المصالحة و ما اتى به من نتائج على الصعيد الوطني و الاقتصادي سوى زيادة غنى الغني و فقر الفقير !
ثمّ ما الذي قدّمته وزارة الحوكمة و مقاومة الفساد سوى الحديث عن المخالفات ، و تقديم التسويفات بدل الإنجازات، طوال فترة توليها لمسؤولية "الحوكمة" علما و أن ّ الحوكمة تعتمد بالأساس على الإدارة المتسقة و الجيدة و السياسات المتماسكة و الانشطة التفاعلية القادرة على تجاوز مطبات النظام السابق و تقديم البديل الرشيد .
كنا قد سمعنا عن : قرار  وزارة الحوكمة ومقاومة الفساد في الفترة الانتقالية بقيادة الترويكا، بعث وكالة وطنية  قيل انها ستكون "مستقلة" تعنى  بالإستخبارات  و ذلك بالإشتراك مع ألمانيا (بالنظر إلى خبراتها في  المجال الأستخباراتي) خدمة للامن الجمهوري فهل تحقق الهدف الموضوع آنذاك :  و الذي تمثّل في "تقديم المعلومات الإستقصائية و الإستباقية في إطار إستراتيجية خاصة بالتعاون مع وزارتي الدفاع والداخلية." نحن نعرف سلفا الإجابة. إنها لا و إن كانت نَعَمِية ً فهي خفيةٌ لا أحد يعلمها باعتبارها استخباراتيةٌ : إذا و الحال أنها كذلك، ماكانت النتائج و المفروض أنها لابدّ ستكون ملموسة !
لاشيء ، سوى أنّ تونس رُتّْبت ضمن أكثر البلدان اتساما بالفساد . إنّ كلّ الاطراف  اليوم  معنية بما قد يحصل للبلاد و نحن موضوعون أمام مفترق طرق خطير جدا فإما أن نسلك طريقا مؤديا نحو برّ السلام و إماّ أن نكون سببا رئيسا في تغيير الخارطة الجيوسياسية للشرق الاوسط و شمال إفريقيا و ربما العالم ، بالسلب او بالإيجاب .. 
مشهد سياسي جديد :
أمام هذه المخاوف و الأسئلة الحارقة التي تنضاف لها جملة من الترقُّباتِ المنوطةِ بعهدةِ السياسيينَ القادةِ منهم و المعارضونَ تبقى مسألة إنقاذ الاقتصاد الوطني التونسي من الانهيار و بخاصة من  المديونية و من إمكانية أن يظل تابعا مدى العمر للمؤسسات الاقتصادية العالمية ، مسألة راهنة تستحق التفكير و لأنه يصعب معالجة السياسية بمعزل عن الاقتصاد و العكس صحيح ، يبقى الأمل قائما لا فقط في خلق مؤسسات إقتصادية جديدة أو في تغيير السياسات الاقتصادية القائمة بل  في التشكيلات السياسية الممكنة .
من المنتظر أن تنضاف أربعة أحزاب رئيسية إلى دينامية السياسة في تونس ، بما قد يساهم في تفعيل الحركية و إثراء الثقافة السياسية حيث سيعلن محسن مرزوق عن تشكيل حزبه في مارس المقبل، كما سيطلق مهدي جمعة مجموعة التفكير (ثينك ثانك) و من جهته سيؤسس الوزير السابق منذر الزنايدي حزبه و سيطلق محافظ البنك المركزي سابقا مصطفى كمال النابلي  و بعض أعضاء ،الجمعية التونسية للاقتصاديين حزبا أو منتدى اقتصاديا يعنى بدراسة المستقبل. 
مكونات جديدة في المشهد السياسي قد تقدم بدائل سياسية و تعوض التونسيين انعدام الثقة في الاطراف الحاكمة و التي بدا جليا انها تخلت عن برامجها للانتخابات التشريعية و الرئاسية و انطلقت في تحكيم قبضتها على السلطة لا غير، و لكن السؤال المطروح : هل ستستطيع هذه" البدائل" تقديم الجديد على جميع الأصعدة و هل ستكون أهلا لإطلاق صفة البديل عليها ذلك ان البديل يتيح المجال أمام اختباره و امام إعادة ترتيب أطراف و مكونات المشهد السياسي التونسي .
قد تشكل هذه الأحزاب أو المكونات الجديدة "خطرا" على الأحزاب المكونة للمشهد الحالي خصوصا الاحزاب الصغيرة من حيث الحجم ( أي التي لم تشكل تحالفات مع احزاب أخرى) أو الأحزاب المعارضة التي لا تزال في انتظار معجزة تجعل منها بطلا دون محاولة ( اغتيال سياسي جديد، ربما) و قد تهدد أيضا الاحزاب السياسية الحاكمة رغم تحالفها و رغم ما تبديه من قوة و كبر حجم في حال ما إذا عملت البدائل على تشكيل تحالفات جديدة ، و هو أمر سابق لأوانه، في الوقت الحالي . 
المشروع المجتمعي لا ينفصل عن السياسة و الاقتصاد:
في كتاب بعنوان تونس 2040 حاول مجموعة من المثقفين و الباحثين و الأكاديميين و الديبلوماسيين و النشطاء المدنيين ، تقديم مساهماتهم و رؤاهم حول المشروع التحديثي، و إمكانيات تجديده و قد أصدروا مؤلفا جماعيا مهما بمعية مركز محمد علي للبحوث و الدراسات و التكوين و جمعية نادي محمد علي للثقافة العمالية و هو ما يؤكد أنّ مصلحة البلاد لا تعني شخصا او حزبا او مثقفا او أميا أو دارسا أو باحثا أو طالبا أو واحدا فحسب إنها تعني المجموعة ، إنها أمل مجموعة في العيش بسلام و في الرقي بالبلاد بشكل يسمح بالتعايش بين مختلف الأطراف الفقير و الغني ، الضعيف و القوي ن الحاكم و المحكوم القائد و المعارض المجموعة و الفرد .
إن تجديد العقد الاجتماعي الحالي بيننا ضروري و من المهم جدا ان نقبل بعضنا و ان نفكر في الاتحاد بدل الاستقواء بعضنا على بعض لأننا نعيش في وطن واحد : و لعلي أستحضر في هذا المستوى قول محمد عابد الجابري الذي لا اتفق معه في كل ما يكتبه بل في البعض من الافكار : "إن ما يحتاج إليه النضال العربي في المرحلة الراهنة هو في نظري شيء أقرب إلى ما سماه غرامشي بـ"الكتلة التاريخية". كان هذا المفكر الإيطالي والمناضل السياسي اليساري (1891-1937) يفكر في طريق للتغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي يناسب معطيات المجتمع الإيطالي في زمنه. وكان المشكل الذي يعترض الإصلاح آنذاك في هذا البلد، هو ذلك التفاوت الكبير بين شمال إيطاليا، الذي كان قد بلغ درجة متقدمة على مستوى التصنيع والتحديث، وبين جنوبها الذي كان يحمل سمات المجتمع المتخلف الخاضع لسلطة الكنيسة. ومن أجل الحفاظ على وحدة الأمة الإيطالية والقيام بنهضة شاملة اقترح فكرة الكتلة التاريخية، وهي تضم إلى جانب قوى التغيير والإصلاح في الشمال، من ماركسيين وشيوعيين وليبراليين، القوى المهيمنة في الجنوب بما فيها الكنيسة. ومن خلال مقارنة حال الأقطار العربية في زمننا مع حال إيطاليا زمن غرامشي، اقترحت الفكرة نفسها مع تبيئتها وتكييفها مع الوضع العربي. وهكذا فالكتلة التاريخية كما ناديت وأنادي بها هي: "كتلة تجمع فئات عريضة من المجتمع حول أهداف واضحة تتعلق أولا بالتحرر من هيمنة الاستعمار والإمبريالية، السياسية والاقتصادية والفكرية، وتتعلق ثانـيا بإقامة علاقات اجتماعية متوازنة يحكمها."
يلخص هذا المقتطف حاجتنا الاكيدة  إلى الوحدة الوطنية لأمر واحد فقط وهو ضروريا لنجاح المرحلة الانتقالية في تونس وفق علم السياسية و هو استقرار النظام السياسي بما يسمح بالتداول السلمي على السلطة بشكل ديمقراطي و التعبير عن الرؤى و المواقف و الافكار في كنف الديمقراطية و المساهمة في جعل تونس منارة و نموذجا للنجاح على مستوى عالمي .

*آسيا توايتي صحفية – باحثة في العلوم السياسية

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.