ارهاق الديمقراطية

تبنت الدول التي عاشت تجربة انتقال ديمقراطي في الغالب، النظام البرلماني أو شبه البرلماني، ومرد ذلك بالأساس الهواجس النابعة من الحقب الاستبدادية الماضية، التي كانت في الغالب أيضا تحت إمرة أنظمة رئاسية، وبالقدر الذي تبدو فيه الأنظمة البرلمانية أكثر قدرة على تحقيق القيم والمبادئ المرتبطة عضويا بمنظومة الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، فإنها تبدو في الوقت ذاته أعجز من سواها على تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المطلوبة، بالنظر إلى تعدد مراكز القرار فيها وطول وتعقد مساطرها وبطء إجراءاتها، كما هي عرضة دائما لعدم استقرار مؤسسات حكمها، وقصر أعمار حكوماتها وتعاقبها السريع، وكثرة المشاحنات والمؤامرات والانقلابات في أوساط نخبها، بما يقودها في كثير من الأحيان إلى فشل كامل وذريع، يليه انقلاب عسكري أو حرب أهلية أو فوضى عارمة.

وعلى الرغم من البسالة التي يبديها المخلصون في بلدنا في الدفاع عن النظام السياسي الجديد الذي أفرزته ثورة الحرية والكرامة ونص عليه دستور الجمهورية الثانية، فإن ديمقراطيتنا الناشئة ما فتئت تواجه جملة من الهجمات المتتابعة الساعية إلى "إرهاقها" في مخطط ربما للقضاء عليها، فهي كما يبدو مزعجة في استمراريتها ونجاحها لأطراف داخلية وإقليمية ودولية التقت مصالحها في السعي إلى الإجهاز عليها، مسخرة بلا شك عوامل موضوعية غير مناسبة من قبيل تداعيات الأزمة الاقتصادية والمالية المحلية والعالمية، وعدم نضج المنظومة الحزبية بالنظر إلى حداثتها، والاستغلال البشع والسيء لمنظومة الحريات وحقوق الإنسان من قبل المافيات وعصابات الجريمة المنظمة والجماعات الإرهابية المتطرفة، فضلا عن عوامل ذاتية من أهمها النرجسيات المتضخمة والأزمة الأخلاقية المستفحلة ومحدودية ثقافة المواطنة.

إن إرهاق الديمقراطية عبر تواصل موجات الاحتجاج الاجتماعي والاضرابات والاعتصامات، ومن خلال الإصرار على استدامة بؤر التوتر وتعطيل الانتاج في مواطن الثروة، فضلا عن الطعنات الإرهابية الغادرة، وافتعال الأزمات السياسية المتلاحقة، بمناسبة ودون مناسبة، جراء النظر إلى السلطة باعتبارها غنيمة وجب اقتسامها، وتسابق النخب الحزبية وغير الحزبية إلى صراعات لا حد لها تجد في وسائل الإعلام مرتعا خصبا وكاشفا لها، وتحطيم جميع المرجعيات وفسخ كافة الخطوط الحمراء، من شأنه أن يقود إلى رسم لوحة عبثية سريالية للمشهد العام عادة ما يفضي إلى نهاية حزينة لتجربة لطالما شكلت حلما لآلاف البشر من ابناء شعبنا، سفح بعضهم دمه من أجل أن نعيش نحن اليوم مواطنين أحرارا وأسوياء نعيش بكرامة فوق أرضنا الطيبة.

جراء هذا الإرهاق، نرى كيف أن جميع مؤسسات الحكم التي أقيم على أساسها النظام السياسي الجديد، تلهث أو تكاد اختناقا، فالثقافة الرئاسية السائدة شعبيا لا تتفق مع ما منحه الدستور لمؤسسة رئاسة الجمهورية من صلاحيات، والطبيعة التعددية الائتلافية الواسعة لمؤسسة الحكومة جعلتها كمن يسير على البيض يخشى كسره وليس بمقدوره الاعتماد على صلابته أو انتظار دعمه، فيما تكاد مؤسسة مجلس نواب الشعب تغرق في بحر متلاطم الأمواج من الخلافات الظاهرة والباطنة بين الأحزاب والمجموعات وجماعات الضغط التي تحد من تدفق وانسيابية العملية التشريعية وتؤثر سلبا على مبادرات ومقترحات التغيير والإصلاح، يضاف إلى كل ذلك التعثر الملحوظ في نقل بعض المؤسسات الهامة من التنظير الدستوري إلى حيز الواقع المعاش، والتضارب الذي قد يطرأ على تفسير بعض النصوص القانونية خصوصا تلك التي تهتم برسم الحدود بين السلطات والعلاقات فيما بينها والصلاحيات الممنوحة لكل منها، مما يفتح البلاد أحيانا أمام اندلاع أزمات أشبه ما يكون بالانقلابات الدستورية غير المعلنة، كما هو الحال مع وضعية المجلس الأعلى للقضاء.

يجب أن نجتهد سوية في الدفاع عن تجربتنا الديمقراطية بكل ما أوتينا من قوة وإيمان وشجاعة، فهي تجربة في المقاومة، لا تقل قيمة عن تجارب المقاومة الخالدة التي عاشتها أمتنا وما تزال في مكافحة الاستعمار والفقر والجهل والمرض وسائر أنواع التخلف والسقم، فهي مقاومة للتاريخ الذي يلح على أننا "سلطانيون" بالطبع والسليقة، وهي مقاومة للجغرافيا التي تجتهد في إخضاعنا للسائد في منطقتنا، وهي مقاومة للأنانية المتورمة التي تعصف بنفوس كثير من نخبنا وقياداتنا، وهي مقاومة للفساد والمافيات التي لا تستطيع العيش إلا في مستنقعات الفوضى الآسنة، وهي مقاومة لداعش وكافة الجماعات الدموية الضالة المضللة المتربصة بإنسانية ومدنية الدولة، وهي مقاومة لخطابات اليأس والتثبيط والطاقة السلبية والتعجيز والتقليل من الهمة وعدم الثقة في النفس وفي قدرة هذه الأمة الصغيرة العظيمة على مواصلة السير في طريق الديمقراطية والتنمية.  

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.