تصديق "التوانسة" للخرافات.. معضلة مسكوت عنها

I.    آن الأوان لكشف خرافات الإعلام

تصديق الخرافات مسألة جوهرية ما زال الكثيرون يصرون على عدم التطرق إليها لأنها لا تخدم مصالحهم أو لأنها لا تخدم طموحهم في تحقيق الشهرة والوصول إلى المكانة السياسية أو الإجتماعية أو الثقافية التي يطمحون إليها…

رغم نسبة التمدرس المرتفعة ورغم تطوّر مناهج التعليم الجامعي ورغم انتشار وسائل الإتصال والهواتف الذكية .. إلا أن الفكر الخرافي ما زال منتشرا لدى نسبة مرعبة من التونسيين .. وهذه المعضلة لا تخص طرفا إيديولوجيا أو عقائديا دون غيره .. فالفكر الخرافي منتشر حتى لدى أدعياء الثقافة والحداثة والتطوّر من المتطفلين على الآداب والفلسفات الغربية بطريقة هستيرية .. والأخطر من ذلك أن نجد الفكر الخرافي والتقليد منتشرا لدى نسبة مرعبة من رجال التعليم بمختلف مستوياتهم (نقول هذا بدون تعميم).

فالتونسي ورغم استعراضه الكاسح للحداثة والآداب والعلوم الإنسانية.. إلا أنه سرعان ما يقع في الفخ من خلال تصديقه لأخبار ساذجة قد لا يصدّقها الحمار …

لذلك نودّ إعطاء بعض النقاط :

1-    الفيسبوك ليس وكالة أنباء (ولو أن ما تنشره وكالات الأنباء ليس مقدسا)

2-     هناك عديد المواقع والصحف تنشر الإشاعات والخرافات والأكاذيب لغايات منها التجارية والسياسوية وغيرها

3-     نتفهم أن عديد الصحف والمواقع الالكترونية التجأت إلى نشر الخرافات من أجل خدمة غايات سياسية وإثارة الرأي العام. فالجماهير بصفة عامة وخاصة إذا كانت تخص مجتمعا متخلفا كالمجتمع التونسي، لا يمكن حشدها وجرها إلى صناديق الإقتراع إلا بهذه الأساليب. والجماهير عادة لا يمكن حشدها اعتمادا على الخطاب المعقلن.

4-     اليوم تغير المشهد السياسي ولم يعد هناك مبرر لنشر وابتلاع هذه الخرافات.. وعلى القارئ أن يكتسب حسا نقديا.

5-    ابتلاع هذه الخرافات ونشرها قد يضع الكثيرين في حرج خاصة إذا كانوا من ذوي المستوى التعليمي المرتفع والوظائف الإدارية والإجتماعية المهمة، وخاصة بالنسبة لرجال التعليم الثانوي والجامعي. فكيف سيكون رد فعل التلميذ أو الطالب عندما يرى أستاذه ينشر خرافات وأخبارا زائفة لا يقبلها العقل ! ؟

6-    لتجاوز هذا الإشكال بالإمكان الإستعانة بهذه النصائح :

–    تحديد محتوى المادة الإعلامية : خبر ؛ تحليل خبر : رأي ؛ رد على مقال ..

–    التثبت من انتشار الخبر في وسائل إعلام أخرى : رواية الحكومة تختلف عن رواية المعارضة ؛ رواية أحد الاطراف السياسية تختلف عن منافسيه

–    التثبت ممن يملك المحتوى أو وسيلة الإعلام التي نشرت الخبر

–    التعرف على الخط العام لوسيلة الإعلام التي تتابعها (و لو أن هذه المسألة ليست بالهينة باعتبار أن عديد وسائل الإعلام تفتح منابرها لما يسمى "رأي مختلف" بطريقة ممنهجة للظهور في ثوب المحايد والموضوعي)

–     التثبت من المصادر التي تنقل عنها وسيلة الإعلام، ومن مدى مصداقيتها وموضوعيتها.

II.     التونسي واستبطان الخرافة

من المروّج إلى المتلقي.. بين الاستعذاب والتقية والسذاجة :

الأسباب.. بين الجذور التاريخية، والديناميات الفكرية والمجتمعية السائدة …

بعد هروب بن علي انتشرت عديد الخرافات في تونس. وهنا لا نقصد الخرافة بمعناها الأنثروبولوجي الواسع، إنما الخرافة بذلك المعنى الذي يدور في فلك المصطلحات والقوالب التالية (الإشاعات ؛ الأكاذيب ؛ التضحيم والتقزيم الممنهج للوقائع ؛ التحليلات الفوقية المؤدلجة ؛ الفبركة ؛ تدليس التاريخ ؛ النسخ والنقل العشوائي ؛ ربط الأحداث ببعضها عشوائيا … ).

سنحاول البحث في ديناميات هذه الخرافات الخطيرة التي تهدد النسيج الإعلامي والسياسي والاجتماعي والثقافي والفكري في تونس، والتي تلعب وستلعب أدوارا رئيسة في جر البلاد نحو مستنقعات التخلف والرجعية والانحطاط في هذا الواقع الكوني المعقد والصعب.

الخطير في الأمر أن هذه الخرافات لا تنحصر في تيار دون آخر ولا علاقة لها بالمستوى التعليمي، بل لعلها منتشرة بين صفوف “الجامعيين” و “الأكاديميين” و”النخب” أكثر من انتشارها بين العامة. كما انها لا تتعلق بطرف إيديولوجي دون آخر بل هي منتشرة في صفوف العلمانيين جدا والحداثيين جدا وحتى الذين يعتبرون الأديان خرافات. ولو تعلق الأمر بصبيان الفيسبوك والعامة لما تناولنا هذه المسألة، فالظاهرة منتشرة في صفوف الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والفكريين الذين يتصدرون المشهد ويقدمون أنفسهم كعباقرة، بل ويعتبرهم الكثير من الناس عباقرة.

تمثل وسائل الإعلام الواجهة الرئيسية لبلورة وتفعيل ونشر هذه الخرافات. و هنا نحن لا نتعامل بمنطق الإسقاطات النمطية، فالإعلام التونسي يقدم أعمالا مهمة ورائعة، كما أن الإعلاميين التونسيين يتمتعون بتكوين علمي وتقني طيّب رغم الحالة العامة التي كانت وما زالت سائدة، فنحن بصدد التركيز على الجانب الخرافي المنتشر ولا نسعى إلى شيطنة الإعلام وتشويه الإعلاميين. كما أن المسألة لا تنحصر في الإعلاميين بل تتعدى ذلك إلى السياسيين والفاعلين الفكريين والإجتماعيين الذين يتخذون الإعلام كواجهة رئيسية لبلورة ونشر أفكارهم.

هذه الخرافات هي إفرازات مجتمعية قبل ان تكون إفرازات ذاتية منحصرة في مجموعة من الأفراد والدوائر الفاعلة. فالمثقف مثله مثل الإعلامي و السياسي هو نتاج صيرورة تاريخية واجتماعية.

يمكننا الإجتهاد في تحديد الديناميات والأسباب التي تساهم في انتاج وبلورة ونشر الخرافات، من خلال النقاط التالية :

– الثقافة الإعلامية

في هذه النقطة لا نقصد الثقافة بمعناها الأنثروبولوجي الواسع ولا نقصد الثقافة بما يعني التكوين والتحصيل العلمي والتقني والمعرفي، كما لا نقصد بالثقافة ما يجري في ما تسمى “دور الثقافة” ووسائل الإعلام من تهريج. إنما الثقافة بما تعني التعامل المجتمعي والفكري والمدني مع المادة الإعلامية. فعلى سبيل المثال، لو تجرأت مؤسسة إعلامية في أحد البلدان الغربية على نشر مجرد إشاعة أوتقديم تحليلات خارجة عن المنطق وتقوم على الربط الساذج للأحداث ببعضها البعض وتضخيم او تقزيم الوقائع بسذاجة، ستفقد هذ المؤسسة مصداقيتها وستكون محل سخرية وتندر وستخضغ لضغط رهيب قد يساهم في فنائها أو تحولها إلى قزم إعلامي بدون قراء ولا متابعين. أما في تونس فالأمر مختلف، لأن مثل هذه السلوكيات تساهم في “نجاح” الدوائر الإعلامية وزيادة عدد قرائها ومتتبعيها. وهذا ما يحيلنا على النقطة التالية التي سنتحدث فيها عن نوعية القارئ أو المتلقي.

– نوعية القارئ والمتلقي

فئة واسعة من القراء والمتابعين للإعلام في تونس تتعامل مع المادة الإعلامية بمنطق رد الفعل لإرضاء الهستيرية الإيديولوجية والبحث عن الإثارة والتلذذ والإستعذاب بالخرافات. وفي حقيقة الأمر، أغلب المستهلكين للخرافات يدركون أنهم يتعاملون مع خرافات، لكن الواقع الذهني المشحون والمضطرب يولّد إفرازات كيميائية تجعلهم يتقبلون هكذا أشياء ويتلذذون بها، فتتحرك كيميائيات التفكير والمعرفة والوعي لتجعلهم يتقبلون ويبتلعون الافكار التي تتحول إلى قناعات مقنعة. وبهذا يدخل المتلقي في دائرة مغلقة من الإدمان بما يجعله ينفر غريزيا من الأعمال الإعلامية القيّمة. وهذا ما يحيلنا على النقطة التالية التي سنتحدث من خلالها على الحالة العامة التي ولّدها الهروب المفاجئ لبن علي من تونس.

– الهروب المفاجئ لبن علي

ولّد الهروب المفاجئ لبن علي تحولا عميقا في الديناميات الفكرية والمجتمعية باعتبار تكسر القيود وتوفر مجالات واسعة من حرية التعبير. وهذا ما جعل الصراعات الايديولوجية والسياسية تطفو على السطح بعد أن كانت راكدة. فأصبح كل طرف إيديولوجي يسعى إلى تموقعه والحصول على مشروعيته وإثبات أحقيته بالتواجد وصياغة الأسس النظرية والعملية للإدارة الإجتماعية والسياسية. وفي هذا الإطار تأتي الخرافة كسلاح ناجع وسهل للتموقع والإثارة والحصول على الشهرة وضرب الخصوم وصناعة الرأي العام.

– الميثولوجيا والموروث الخرافي

تلعب الجذور التاريخية للمجتمع التونسي أدورا رئيسة في تغذية المد الخرافي. فرغم توريد وسائل الإتصال ورغم نسبة التمدرس المرتفعة نسبيا ورغم تطور مناهج التعليم الجامعي، يبقى نمط التحليل والتفكير لدى التونسي مشتقا من الميثولوجية الإسلامية وكرامات الأولياء الصالحين الذين يتمتعون بقدرات عجيبة يعجز العقل عن فهمها، وهذا لا يتعلق بطرف ايديولوجي أو عقائدي دون غيره، بل حتى العلمانيين جدا والحداثيين جدا وحتى الذين يعتبرون الأديان خرافات هم معنيون بهذا الطرح لأن المسألة تتجاوز الإيديولوجي نحو الابستيمولوجي، فمنطق الخرافة تسلل على شكل حبيبات خفية من البنى الإجتماعية والثقافية التقليدية إلى البنى الفكرية والثقافية التي تحولت إلى أصنام تحمل طابعا تحديثيا صوريا.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.